اخبار عاجلةثقافة و فنون

هل نحن مواطنون فعلا ؟

أبوالمجد عبد الجليل
يحتل مفهوم المواطنة موقعا مركزيا في الفكر القانوني والدستوري المعاصر. إذ إن المواطنة، بما تشكل من شخصية اعتبارية لها حقوق وواجبات، وهي أحد الأعمدة الرئيسية للنظريات الدستورية والسياسية المعاصرة.
قبل الخوض في هذا الموضوع الشائك والمتعلق بالعلاقات بين المجتمع والدولة وبسلوكيات الأفراد والجماعات، لابد من توضيح باقتضاب ما يخص ماهية المواطنة والمواطن ؟
المواطنة بتعريف بسيط تتمثل بالحقوق والواجبات التي كفلها الدستور، ومن هذه الحقوق الحق في الحياة، والحق في التنمية، والحق في المشاركة السياسية، إضافة إلى المساواة أمام القانون. ومصدر الوعي بالمواطنة يتأتى من منظومة القيم المشتركة في المجتمع، والتي تشكل بدورها الثقافة السياسية السائدة.
وفي اللغة العربية جاءت المواطنة في صيغة مفاعلة، وأصلها كلمة مشتقة من وطن، وهو حسب معجم لسان العرب لابن منظور “الوطن هو المنزل الذي تقيم به، وهو مواطن الإنسان ومحله (…..) ووطن بالمكان وأوطن أقام، وأوطنه اتخذه وطنا، والموطن، تفعيل فيه، ويسمى به المشهد من مشاهد الحرب وجمعه مواطن، وفي التنزيل العزيز: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة (…) وأوطنت الأرض ووطنتها واستوطنتها أي اتخذتها وطنا، وتوطين النفس على الشيء كالتمهيد…..”.
وكلمة المواطنة تستعمل في الغالب للتعبير عن انتماء جغرافي – سياسي يرتبط بالدولة بصفتها كيانا سياسيا وقانونيا محددا بمساحة جغرافية معترف بها، فجميع من ينتمي إلى هذا الكيان يعتبر مواطنا. و”المواطن” كما يقول الفيلسوف الهولندي سبينوزا لا يولد “مواطنا”، وإنما “يصبح” مواطنا.
والتراث العربي/ الإسلامي غني بالمشاعر الوجدانية التي تتغنى بحب الوطن والحنين إليه، ولكن من دون اكتسابها معنى حقوقيا محددا. والسبب في ذلك يعود إلى أن المجتمع الإسلامي كان محكوما منذ بداياته بنصوص دينية تتحدث عن الراعي والرعية والشورى، وليس عن المواطن والمواطنة والديمقراطية، بل وحتى فلاسفة الإسلام من الكندي إلى ابن رشد ، الذين نقلوا التراث اليوناني إلى العربية لم يذكروا مفهوم الفرد/المواطن.
فالمواطنة إذن، ليست جزءا من التراث العربي الإسلامي، إذ كان مكانها مفهوم الرعية الذين يرعاهم راع اختلفت المذاهب وآراء الفقهاء حول طريقة اختياره ومرجعية سلطته.
ولكن بعض الباحثين ذهب بعيدا من أمثال برتران بادي Bertrand Badie في كتابه ( الدولتان- السلطة والمجتمع في الغرب وفي ديار الإسلام) حين يرد سبب غياب مفهوم المواطنة لدى المسلمين إلى غياب كتاب (السياسة) لأرسطو في التراث الإسلامي. وأن فلاسفة المسلمين اتسموا بالطوباوية وفضلوا أفلاطون وجمهوريته الخيالية على أرسطو وكتابه (السياسة).
والجدير بالذكر، إن معظم الكتابات العربية المعاصرة، تنطلق في التأريخ لفكرة المواطنة بمعناها السياسي الحديث، من أعمال رواد الإصلاح والنهضة في القرن التاسع عشر. ولعل من أهمهم العلامة رافع رفاعة الطهطاوي، باعتباره أول من استخدم مصطلح المواطن بمعناه السياسي الحديث، وقد جاء في كتابيه (مناهج الألباب) و (المرشد الأمين) بصيغة “ابن الوطن” و “الوطني” و “الوطنية”.
وهكذا حل في الدولة العصرية مفهوم المواطنة الدستورية محل الهويات الثانوية مثل القبيلة والطائفة والجماعة والأسرة، حيث يحمل الجميع صفة المواطنة فأصبحوا مواطنين دستوريين متساوين في الحقوق والواجبات، وليسوا رعايا أو أتباعا لهذا الطرف أو ذاك يهب ويمنع ويتفضل.
والجدير بالذكر إلى أن كلمة “رعية” نفسها مازالت مستعملة في الخطاب السياسي في بعض الأنظمة الملكية بمعنى الانتماء إلى المملكة، مثل ما يقال في المغرب: “الرعايا الأوفياء”.
والمتأمل في واقعنا الاجتماعي والسياسي وحتى الديني اليوم يكتشف من دون كثير عناء أن منظومة القيم تعاني من أزمة حقيقية تعكسها السلوكيات والتعاملات اليومية في المجتمع المغربي، حيث تتغير منظومة القيم حتى كاد أن يحدث التباس بين الصواب والخطأ فانتشر الكذب والخداع والتدليس والرشوة والنصب والاحتيال والجحود والأنانية وانتهاز الفرص وتغليب المصالح الخاصة واللامبالاة والتشهير والشتم والعنف، بدلا من قيم العمل والضمير والصدق والاستقامة والأمانة والاحترام.
والسبب الرئيسي فيما وصلنا إليه هو عدم الاستثمار في الإنسان صانع التقدم والتنمية، فلا المدرسة علمت الأجيال سلوكيات المواطنة، ولا العائلة تعرف أو تهتم لتعلم وتلقن قيمها، ولا هي جزء من الثقافة العامة، ولا الإعلام اهتم يوما، ولا حتى الأحزاب عملت على التوعية بالمواطنة.
فإذا كنا لا نعرف أصلا ما تعنيه هذه الصفة، فكيف سنعرف إن كنا مواطنين حقا أم لا؟ وكيف سنفكر إن كان من حقنا أن نطالب بأمر ما، أو نرفض أمرا آخر… لأننا “مواطنون”؟ النتيجة بسيطة: ما دمنا لا نعرف ما هي المواطنة وقيمها، وبالتالي لا يمكن أن نعرف أو نميز بين الحقوق والواجبات.
فبعد ما يسمى خطأ “بالربيع العربي” تغير المجتمع المغربي كثيرا وانتشرت القيم السلبية معوقة للسلوك النمطي للشخصية المغربية، وقد ظهرت نقط ضعف وسلبيات كثيرة على مستوى السلوكيات، لاسيما في أوساط الشباب ، منها ، على سبيل المثال لا الحصر ، رمي النفايات من نوافذ العمارات والسيارات ، حتى جعلوا الشوارع مزابل وأكوام نفايات، تقصير الموظفين بسبب راتب ضئيل لا يستحق أن يتعب من أجله، السكوت عن قول الحق، التضييق على الحريات، شهادة الزور، عدم تكافؤ الفرص، منح الأصوات لمن يدفع أكثر مما يعبر عن بيع الذمم، التشهير بأعراض الناس عبر الشبكات الاجتماعية… فهل حقا نحن مواطنون؟
فمن حق المواطن أن يقترح ويعترض وينتقد ويطالب، ولكن لا بالشتم ولا بالتشهير ولا بالعنف، لأن أصل الطلب هو ذلك الأمان وتلك العيشة التي يرى أنها تليق به، وهذا لا يمكن أن يتحقق بالشتم أو التشهير أو التشنج في إيصال الصوت أو النقاش، المواطن يجب عليه ألا ينسى أن المواطنة هي التزامات متبادلة.
وهل نحن، كمواطنين، نقوم بواجباتنا تجاه المجتمع والدولة؟ ليس أبلغ هنا من قولٍ الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي في خطاب تنصيبه سنة 1961: “لا تسأل عما يمكن أن يفعله بلدك لك، اسأل ما يمكنك القيام به لبلدك”.
وفي نفس السياق أكد المؤرخ المغربي إبراهيم بوطالب في مؤلفه (معالم التغيير في تاريخ المغرب في القرن العشرين) أنه “مادام الإنسان في المغرب عاجز عن زجر نفسه بنفسه، فلا بد له من زاجر من غير نفسه، وتلك ليست حالة المواطنة وإنما هي حالة الرعاية.”. وهي الحالة الاجتماعية والسياسية الحالية في المغرب حيث سقط مفهوم الحق والواجب واختلطت الأمور.
فالحق والواجب وجهان لعملة واحدة، فإذا كان للفرد حقوق، فإن عليه واجبات ومسؤوليات تجاه نفسه ومجتمعه ووطنه.
ومسك الختام، الوطن ليس شعارا رومانسيا، نجسده فقط في الهتافات والشعارات وفي المناسبات، أو نجعله مفردة في مناهج الدراسة. الوطن والمواطنة قيم وممارسات تتجسد من خلالها العلاقة الحقيقية بين الفرد ونظامه السياسي، وعندما تنظم هذه العلاقة في منظومة من الحقوق والواجبات يمكن الحديث عن مواطنة. وما عدا ذلك فأي توصيف هو مجرد شعارات لا علاقة لها بالواقع.
و يبقى الأمل في أن نستفيق من سباتنا و نخطو خطوات نحو حـــركة إصـــلاحية جديدة تؤسس لمشروع مجتمعي جــديد ومسؤول ، وزرع نبتة الإيجابية في نفوس الأجيال الصاعدة قصد نفض غبار الإحباط والتشاؤم الحائم حولنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق