اخبار عاجلة

ناصر الحرشي ….(رواية الجينرال في متاهته ) للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز …بوليفار المحرر والموحد والعسكري الخاسر على طاولة السياسة.

قد يكون السرد هو الوسيلة الوحيدة والمثلى التي مكنت عراب الواقعية السحرية غابرييل غارسيا ماركيز في روايته (الجينرال في متاهته ) بعد روايته العمدة وباكورة اعماله ( مائة عام من العزلة ) من شق طريقه في هندسة عمل واقعي وسحري وتخييلي عبر ذاكرة سردية ظلت اسيرة للغات ومحكيات سابقة عنها ضمن سياق تاريخي اوسع من دائرة الذات وملكوتها المحدود . استنادا الى ذلك ثم تحديد الروابط الخفية بين خصوصية هذه الرواية كحكاية منقبية حاضنة في المقام الاول لسيرة هذا الجينرال البطل وهو سيمون بوليفار الذي كسب كل المعارك ضد الاحتلال الاسباني لجمهوريات الموز محررا وموحدا القارة الامريكية الجنوبية وبين ما ترويه عنه المتون التاريخية ، ما منح هذه الحكاية التي تناولت حياة هذا الجينرال شرعية الانتماء الى هذه القارة التي اكتشفها البحار والجغرافي الايطالي كريستوف كولومبوس . وتلك هي الغاية التي دفعت بالكاتب الكولومبي الى خلق شخصيات تدور في فلك الجينرال وتسعى بكل الوسائل للبرهنة على وجودها . وتلك هي المفاصل التي تجمع بين التخييل وبين ما يأتي من وقائع فعلية . عشق سيمون بوليفار هذه القارة وعشقته وهو ابن مدينة كركاس الفينزويلية والمنتمي الى الارستقراطية البيضاء في هذا البلد والنبيل التائر الذي عاش طويلا في احدى مزارعه في جنوب اسبانيا قبل ان يغادرها بعد وفاة زوجته ليحمل السلاح ومعه قضية الوطن السليب والمحتل من طرف جحافل الجيش الاسباني وينخرط في مسيرة تحريرية طويلة كابد فيها المشاق وركب الاهوال وداق مرارة الخيانات ونجا من كمائن الاعداء وغدر المقربين اليه ( الجينرال سانتندير )وكل المؤامرات التي كانت تحاك ضده وضد مشروعه التحريري والوحدوي . هذا الجينرال المحاط دوما بالعشيقات اللواتي كن سندا له والمنقدات لهذا البطل الرومانسي والمثالي من دسائس اعدائه . فقد بنى الكاتب هذه الشخصية العسكرية استنادا الى حقائق واقعية لا في ردود افعالها او مواقفها وخياراتها فهو حسب ماذكر في الرواية ابن مدرسة الثورة الفرنسية حيث تلقى تكوينه الفكري وتربيته السياسية في باريس بعد ان تأثر بافكار دانتون وأخذ عنه قولته الشهيرة ( هو عليه ان يموت لكي يعيش الوطن ) ثم طبق دساتيرها ومواثيقها الحقوقية في ربوع هذه القارة قبل ان تعصف بها الصراعات والخلافات التي نشبت بين رفاق السلاح . لذا كان المحكي في هذا النص وعاءا صور فيه ماركيز انتصار سيمون بوليفار لشرطه الانساني فهو العسكري الخاسر على طاولة السياسة والرابح على مستوى المبادئ والمثل العليا والمستقيل من قيادة الجيش والحياة العامة بعد ان ادى رسالته وحرر كل عبيد القارة اسوة بابراهام لينكولن . فالليبرتادور ( المحرر ) قد تنبأ بمصير هذه الجمهوريات ووقوعها في ايدي طغاة صغار . من خلال هذه الذاكرة الفردية والجماعية التقط صاحب الواقعية السحرية تفاصيل حياة  هذا الجندي البطل الذي قاد ثورة سرقها من بعده الجبناء وارخ لمسيرته ومجده ثم رحيله ويقطع نهر لمغدالينا وهو يردد قولته الشهيرة احتجاجا على عدم بلوغه غايته المرجوة بتحرير العقول بعد ان حرر الارض ( يارب الفقراء ) .

بقلم الناقد الادبي والسينمائي ناصر الحرشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق