اخبار عاجلة
فيلم (بروكلين) لجون كرولي… وثيقة تاريخية عن الحياة في أرض الأحلام
استطاع المخرج الايرلندي (جون كرولي) أن يثبت نفسه وموهبته في فيمله (بروكلين) الذي رشح لثلاث جوائز اوسكار كأفضل فيلم، افضل ممثل وافضل نص مقتبس ــ مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه صدرت في 2009 لكولم توييين ــ هذا العمل الذي يعالج مشكلة تاريخية وجوهرية تتقاسمها كل من ايرلندا والولايات المتحدة، وتتعلق بالمهاجرين الايرلنديين الذين سافروا إلى امريكا ــ أرض الاحلام ــ للبحث عن فرص عمل. لكن وبرغم توافر الفرص فإنهم ظلوا يحنون إلى الوطن الام تأسرهم الوحدة والوحشة في فضاء لا يؤمن بالعواطف ولا يرفع سوى شعار العمل. وهو جوهر هذا الفيلم الذي يبحث في هذه الماهية عن طريق الدراما التاريخية المفعمة بالحب والرومانسية.
العالم الأنثوي من مشهد لآخر تتجسد المرأة ومشكلاتها، لذا تتعدد الأصوات النسائية وتفاصيل حياتهن .. ضحكاتهن اللطيفة والمشاغبة، ملابسهن الأنيقة، مساحيقهن المختلفة، طباعهن المتقلبة ومستوياتهن التعليمية والاجتماعية ثم بحثهن الدؤوب عن الشريك أو الحبيب وكل ما يتعلق بعالم الأنثى وغموضه. نجح المخرج كرولي في تجسيد هذا العالم وفقا لرؤى سينمائية جمالية تأخذ بيد المتلقي كي يرى ويحكم على فترة تاريخية مهمة في حياة الايرلنديين المهاجرين الحالمين بالثروة. ناقلاً اوجاع الأنثى وهواجسها، حيرتها وارتباكها من الفضاءات الجديدة وارتباطها بجذورها بالأرض والوطن وتاريخ الاجداد، ذكرى الام التي تركت حزينة وذكرى الاخت التي اختطفها الموت وهي في اوج شبابها ونضارتها. ذكريات يصعب محوها من الذاكرة، ذكريات من الماضي وحكايا الطفولة والمرح. صور متقطعة لصوت البحر الذي يحاصر قرية ايرلندية بعيدة عن أعين العالم لا فرص فيها ولا حلم بمستقبل ولا طريقة يوصل إلى بر الأمان. من هنا تقرر خلق الفاصل من البحث عن الجسر الذي يقود إلى تحقيق الحلم لتقليص المسافة واطلاق العنان لما هو ات. والفيلم يقوم على إعلاء صوت الأنثى وابراز صورتها وجعلها تقول ما تشاء، تفعل ما يحلو لها وتحقق ما تصبو اليه. لهذا كانت السفينة هي الجسر الذي ربطها بما كان في الامس وما سيكون في الغد. والذي سيوصلها إلى الفضاء الامريكي فضاء الحلم والجنة الموعودة.نجح المخرج كرولي في تجسيد هذا العالم وفقا لرؤى سينمائية جمالية تأخذ بيد المتلقي كي يرى ويحكم على فترة تاريخية مهمة في حياة الايرلنديين المهاجرين الحالمين بالثروة.
رحلة أليس
من هنا تركت (أليس) البطلة الرئيسية ايرلندا مضحية بالعلاقة الكبيرة التي كانت تجمعها بأختها (روز) وتوجهت إلى بروكلين كي تعانق هذا الحلم لتطلق العنان لأنوثتها الموؤودة وتنفض عنها غبار سنين من التهميش والاقصاء. انها امرأة تعكس صورة جميع النساء وتنتصر لهن وتحرضهن على المضي قدما دون الالتفات إلى الماضي الذي اضطهدهن. ماضي التركة الثقيلة من التقاليد الخانقة والفهم الخاطئ للدين والنظرة الرجعية للمرأة. انتصرت أليس لأنها ذهبت إلى بروكلين حيث ظهرت مواهبها في الدراسة وحصلت على شهادة من الجامعة كمحاسبة. وجدت لنفسها مأوى مستقلا وعملا مؤقتا يؤمن لها حاجياتها واكثر من هذا ظفرت بالحب الذي بحثت عنه حيث أحبها شاب إيطالي وسيم.
الشخصية وتحولاتها
أثبتت الممثلة (سواريز رونان) في هذا الفيلم انها تمتلك القدرة والموهبة على تجسيد كل الادوار حيث لعبت على التناقض الصارخ في شخصيتها اذ رأيناها في المرحلة الاولى فتاة خجولة وساذجة وضعيفة الشخصية لا تستطيع الدفاع عن نفسها بل ومنطوية على نفسها اما في المرحلة الثانية فقد تحولت إلى امرأة ناضجة تدافع عن نفسها وعن خياراتها بكل ثقة وفخر. اذ نراها باكية حزينة ثم ضاحكة ومرحة مقبلة على الحياة مدبرة عنها حائرة وشاكية راضية ومشوشة ثم حاسمة في امور كثيرة. فهي خليط متنافر من الانفعالات والمشاعر الانسانية المتضاربة. فضلا عن الملامح الفيزيائية القوية لوجهها. ويعود كل هذا إلى الخبرة الكبيرة التي راكمتها (رونان) من خلال تمثيلها في عدد من الافلام ووقوفها امام الكاميرا منذ صغرها.
أسئلة وجودية اما الحبكة فقد كانت مثيرة برغم محدودية الاحداث وطرحت عديدا من الاسئلة الفلسفية عن تقلبات النفس البشرية وجعلت المتلقي يتساءل عن مصير علاقة الحب الكبيرة التي جمعت أليس مع الشاب الايطالي انطونيو. هل كان حبا حقيقيا؟ ام ان هذا الاخير وجد قلبا شاغرا فملأه؟ هل ستعود أليس إلى حبيبها بعد ان سافرت إلى قريتها الايرلندية وبدأت تنسج هناك علاقة غير واضحة المعالم؟ هل سترتبط بابن قريتها الذي يعد زوجا مثاليا لها؟ لقد وضعها القدر في امتحان صعب كادت ترسب فيه. هناك قيمة اخرى نقلها الفيلم وهي الدور الجبار الذي لعبته الكنيسة في تحقيق حلم أليس. اظهر الفيلم حيوية بروكلين وتطلعها إلى المستقبل سياساتها وثقافاتها وكذا احلام اصحابها وعلاقتها بالأخر الوافد اليها. انها ملحمة أليس الشابة الايرلندية الطموحة الحالمة الساعية قدما نحو الامام من دون ان تنظر إلى الخلف حيث الجراح والتطاحن والحروب المذهبية في بلادها. والفيلم برغم من محدوديته الزمنية قدم وثيقة تاريخية يتقاطع فيها الواقعي بالفني والجمالي.
بقلم الناقد الأدبي والسينمائي ناصر الحرشي