اخبار عاجلة

صندوق العجائب» للمغربي أحمد الصفريوي: العوالم الفانتازية لطفل متسائل

تندرج هذه القراءة في الالتفاف على تجربة سردية صنفها الدارسون تحت اسم الرواية ـ السيرة. وهي كتابة يتداخل فيها البعد التخييلي بالواقع، حيث يتحدث من خلالها المؤلف عن عالمه الجواني وخفايا حياته الحقيقية بصوت بطله.. فتختلط لغة المعيش المباشر بتفاصيله الدقيقة ببنية شعرية تقتحم نصه مع مساحة الحلم الرحبة التي ترخي سدولها، بدرجة يتشابه فيها الأمر على المتلقي، لتظهر الرواية مغايرة للرواية بتقنياتها وثوابتها المتحكمة في صياغتها. كما أن فن السيرة ليس بالسيرة في مقوماتها وملامح قواعدها المحددة.
إن النظر في هذا المولود الحكائي السيري الناطق بلغة موليير، أي لغة المستعمر الفرنسي الذي فرض هيمنته الكولونيالية على منطقة شمال أفريقيا، وهي اللغة التي كتب بها الكاتب الروائي المغربي الفرنكوفوني القراءة والتحصيل أحمد الصفريوي، المولود في مدينة فاس، التي طالما شكلت معقلا للأنتلجنسيا المثقفة المغربية، سواء التقليدية منها أو المرتبطة بالحداثة وما بعد الحداثة. يلفحنا الكاتب بنظرة طفل ثاقبة للأشياء يبلغ السادسة من عمره، وهي شخصية مسكونة بقلق معرفي، رغم حداثة سنها، للبرهنة على حضور أنا الكاتب القوية باستمرار، التي تنضح بوعي ممكن مقابل وعي قائم يرفضه الطفل «الكاتب» جملة وتفصيلا.

في مستهل الفصل الأول من هذا المختبر الإبداعي يناجي هذا الفتى المتفلسف نفسه، حينما يخلد الجميع للنوم، حيث لا يعود مقرنا بأصفاد رقابة الكبار مطوقا بمعجم لاءاتهم، فتتفجر مخيلته في ظلمة الليل، وتنساب منطلقة من عقالها حيث تعتريه رغبة عارمة في الحصول على طائر يتخذه رفيق خلوته ووحدته، بغية إيجاد مخرج من مأزق وجودي يتخبط فيه. هذا الفتى الغر يسعى سعيا حثيثا نحو رسم أفق تفصح فيه طاقاته الخبيئة عن نفسها بما هي ذات صبي في عمر الزهور حبلى بأسئلة حارقة، بلغت حدا من التأزم والتفاقم تتجلى في رؤية إنسان واع للمرض العضال الذي ابتلي به شرطه السيوسيوـ نفسي. ينبغي أن نتريث ونتأمل مليا جغرافية العتبة النصية بدليلها الأيقوني، فبإجماع كل رواد المنهج السميوطيقي يؤكدون أن كل نص سردي هو آلة مولدة للدلالات يشكل منظومة سيمائية وقبة من الرموز والرسائل المشفرة، وعلى هذا النحو فصورة الغلاف هي بمثابة رسالة لفظية صامتة دالة تريد أن ترسل خطابا، وأن تبوح بشيء. فمشهد الزقاق الضيق بأبواب بيوته الموصدة، ثم الحارة الخالية إلا من طفل باهت الملامح وشبح امرأة بخمارها التقليدي الأصفر اللون، ثم الشكل المعماري لهذه البنايات تقحمنا داخل بنية اجتماعية تاريخية عتيقة من تاريخ المغرب المكتوي بنار الحماية الفرنسية، التي فرضت عليه فرضا، وهو الفضاء المكاني الذي خرج من أحشائه الطفل «الكاتب» أي مدينة فاس القديمة المتصدعة بتصدع مؤسساتها القديمة وبنياتها الإنتاجية المتخلفة، مع ظهور طبقة اجتماعية رأسمالية من التجار والحرفيين التي ربطت مصيرها بنمط إنتاج رأسمالي فرنسي ظلت تابعة له، تدور في فلكه. ما أريد قوله بإيجاز هو محاولة رسم صورة عن هذه العتبة التي هي بوابتنا نحو فهم ما استغرق في هذا المنعرج القصصي. فظهور الطفل والمرأة في الصورة وبهذا الشكل السقيم والغائم، دليل على غياب صوتهما وإقصائهما من دائرة الفعل، ومصادرة حقهما في التعبير ووقوعهما في قبضة سلطة مجتمعية، محاصرين بتابوهات كثيرة في بيئة بطريكية لا يعلو فيها سوى صوت الفقيه، الباشا والمرابي، ثم سلطة العقل الأسطوري الغيبي للشوافة «العرافة بالدارجة المغربية». فينبغي ألا نستغرب من ظاهرة حضور وعي ديني قدري قروسطوي يحكم عقول أبطال رواية «صندوق العجائب» بأصواتها النسائية المتعددة، فضلا عن أصواتها الذكورية، تجعل من معركة هذا الطفل التنويرية ضربا من ضروب المجازفة واللامفكر فيه.

هذا الطفل البطل المتسائل، المتشائل، الشقي، السعيد والوحيد الذي يعيش في كنف أسرة تنحدر من منطقة أمازيغية تنتمي إلى الشجرة النبوية الشريفة، حيث يقطن أهله في منزل تملكه كنزة، وهي شوافة «عرافة» ذائعة الصيت، تدعي إيتاء الأعاجيب واستقراء المستقبل والسيطرة على القوى الخارقة من شياطين الجن، مع حماية الناس من كل أنواع الشرور. زبائنها نساء ينتمين إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، وهي من طائفة «كناوة»، إحدى الطرق الصوفية ذات الأصل الأفريقي ـ الغيني، حيث تلتقط أذناه عبر نافدة غرفة بيته الطقوس التي تقيمها هذه المرأة الساحرة، الغريبة الأطوار من استحضار للأرواح بعبق أبخرتها التي تزكم الأنوف، ما أوجس قلبه خيفة من أصحاب المكان وحراس المقام.
المسيد/ الكتاب مدرسته الأولى التي ستلقنه أبجديات اللغة وحفظ القرآن الكريم، رغم تأففه وهو صغير في السن من علوم التلقين وتقليد الآخرين، حيث كان نزاعا نحو التفكير في طبيعة الأشياء من منظور عقلاني شكاك. يختلف عن أقرانه في الطبائع لأنه يريد أن يعرف لا أن يقلد ولأن الآخرين لا يفهمونه. لذا تستبد وحشة تغرز أنيابها في روحه الصغيرة القلقة والتواقة للحرية، ثم الباحثة عن الحقيقة لأن المهادنة أو القناعات الجاهزة لا تشبع نهمه في استكناه المجهول.
هكذا يمتطي صهوة التحدي ويريد أن يطلع على الأسرار والخبايا التي تقبع خلف هذا العالم المرئي وتجسير علاقات مع قواه الخفية. كما أثرت فيه حكايات عبدالله البقال، هذا الحكواتي الغامض الذي تحوم حوله الشائعات، فمن مسفه له، ومن قائل بأنه ولي صالح له كرامات وعبد رباني يجترح المعجزات، كما اتهمه البعض بأن فحوى حكاياته تختزن نقدا مبطنا لسلطة المخزن. كما شكل أب هذا الطفل مرشده الديني والروحي الأول، قبل أن يلج مؤسسة الفقيه بعصاه الغليظة التي تلهب الأجساد. كيف تساكن هذا المتمرد بطبعه مع هذا الفضاء المجتمعي الخانق المشبع بالتقاليد والعادات البالية، المثخن بسلطة واستبداد الكبار والملتاع بالخرافة؟
أمام هذا الوضع يختلي الطفل المدعو سيدي محمد مع صندوق عجائبه الذي يحوي أشياءه الجميلة محاورا إياها منادما لها لأنها لحظة صدق وإشراق وتجل له، بل هي رحلته إلى عوالم أكثر عفة وعذرية ونقاء كسمته وطويته الجميلة. فارتباطه بهذا الصندوق العجيب هو بحث عن قيم حميدة وسط عالم يحكمه وعي مقلوب لم يكن يوما عالمه.

نساء هذه الرواية ربات بيوت، متدنيات التعليم، جلهن من أوساط شعبية متوسطة الدخل تربطهن علاقات صداقة وصراع، متصلات حينا ومنفصلات حينا آخر، مستسلمات لقدرهن، تحكمهن الرؤية الأسطورية والغيبية للأشياء، حياتهن نمطية فيها تكرار واجترار، يعشن أفراحهن وأتراحهن بل لا يحركن ساكنا إذا تعرض أحد أزواجهن لظلم وبطش الباشا وأعوانه، حيث لا يعبرن عن استيائهن على هذا القهر إلا بأصوات خفيضة وخافتة داخل جدران بيوتهن. تشكل الثروة هاجسهن الأول والأخير ثم الانبطاح لسلطة القضاء والقدر. همهن الوحيد هو الإنجاب وليس الإنجاز.
يسترعي انتباه القارئ في هذه الرواية السيرة الحضور الكبير للأم «لالة زبيدة» في حياة الطفل، مقابل الحضور الشاحب للأب فأمه هي رفيقته التي تلازمه طوال الوقت، في حين أن والده منشغل طيلة النهار بالبيع والشراء بدكانه ولا يعود إلا بعد أداء صلاة العشاء. كما تتمتع هذه الأم بسلطة قوية داخل المنزل، مقابل شخصية زوجها الانسحابي حتى في لحظات مرض الطفل ثم شفائه، كان حضورها بجانبه أقوى بكثير، رغم ما سببته غيبة أبيه «المعلم عبدالسلام» القوية من ألم وجراح قبل عودته بعد رحلة عمل وبحث عن الرزق.
صندوق العجائب هو في حقيقة الأمر الأشياء الصغيرة التي يعمد الطفل إلى جمعها وتخزينها وخلق علاقات خاصة معها. فالليل صولجانه ومملكته حيث تتفتق مخيلته ناسجة عالمه الفانتازي الغرائبي كعالم «أليس في بلاد العجائب» حيث يتفجر ينبوع أخيلته متدفقة بعد أن يكف البيت عن الحركة وحينما يكتئب في ظلمة الليل وتعتصره حرقة وهواجس، يعمد إلى إخراج أشيائه مفرغا إياها فوق سريره يتفحصها ويطيل النظر إليها متأملا ليكشف لنا هويتها: سدادة قارورة، أزرار، كماشات، جواهر، قطع قماش، مسامير «ليلبسها مواقف إنسانية متفاجئا بجفوتها وحنقها، بل بعدائيتها له، رافضة التحدث إليه، لا تفصح عن شيء جامدة المشاعر، فاقدة لقدرتها السحرية ليعيدها من جديد إلى الصندوق، لكن لا تلبث أن تستيقظ في الظلمة متخذة أشكالا وأحجاما كبيرة متحولة إلى كائنات حية متجسدة في صورة أميرات وعبيد مسافرة إلى قصور من الأحلام تعزف موسيقى هادئة، تلعب لعبة العرائس وتطير محلقة فوق الأشجار، تقضم الثمار، تلتهم الوجبات ثم تختفي في السماء فوق أجنحة الريح طلبا للمغامرة.
هذه الأشياء التي تحولت إلى كائنات غرائبية هي لحظة مصالحة مع الذات لطفل هارب من شرط واقعي نحو عوالم أكثر رحابة وأكثر انسيابا.
لا شك أن رواية «صندوق العجائب» ذات الخاصية السيرية تنطلق من الماضي لتحاكم الحاضر، تتوغل عبر بنية سردية محكمة العمارة والبناء، في فترة زمنية من تاريخ الحماية في المغرب مجيبة عن أسئلة وثيقة الصلة بها. طفل صغير يعيش عالمه محاولا زلزلة اليقينيات ولدت لديه تساؤلات عديدة أين الصواب في هذا العالم؟ وأين العطب؟ مجتمع مغربي قديم تحكمه الأرثوذكسيات الثلاث القهرية المتمثلة في مؤسسة الفقيه والعرافة والمؤسسة البطريكية لمجتمع ذكوري بامتياز، ثم مؤسسة المخزن المتواطئ مع المستعمر.

في الحقيقة يشكل مجتمع هذه الرواية سجنا كبيرا للمرأة.. لم يكن لها الحق في التحرك ومغادردة مخبئها ومخدعها الزوجي، إلا من أجل التبضع والتسوق أو الذهاب إلى الحمام، متنفسها التعبيري الوحيد، أو الصعود إلى السطوح فرصتها الوحيدة في التحرر، ولا بالنسبة للطفل إلا بالذوبان في دنيا عجائب صندوقه الذي يضم كنزه الثمين مرفأه الوحيد هربا من سلطة الأسرة، ثم حصار المجتمع بأجهزته القمعية والقهرية. وتأسيسا على ما سلف تبقى هذه المقاربة في قراءة هذه الحكاية السيرة نسبية وليست مطلقة، لأن لا وجود لحقيقة مطلقة في التاريخ. كما يبقى مؤلفها أحمد الصفريوي صوتا تبشيريا، سفر بشارة وخروج من نفق مظلم يدهش بمقدرته على صياغة واسعة بتعدد مظاهرها ومواقفها بحيث تراها العين الذاكرة مشتعلة، محاولا عبر هذا الطفل الأسطورة وبلغة تلمح ولا تصرح فضح الحقائق المزيفة التي تثقل كاهله وترفض كل أنظمة الفكر الموروثة عن الماضي، محمولا على بساط حلم جنته الموعودة معبرا من خلال جراب عجائبه عن بزوغ فجر يوتوبيا جديدة تلوح في الأفق مهما عسعس الليل وأناخ بغيومه الداكنة.

٭ كاتب مغربي

بقلم الناقد الادبي والسينمائي ناصر الحرشي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق