اخبار عاجلة
رواية «تاييس» للفرنسي أناتول فرانس: البعد الإلهي والشيطاني في شخصية الإنسان .
ينطلق الفعل الأساسي المولد للحكي في رواية «تاييس» للروائي الفرنسي أناتول فرانس من حادثة تاريخية، أو لنقل شخصية تاريخية عاشت في الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي. وتاييس كانت امرأة فاسقة تغوي كثيرا من الرجال، وقد نجح الراهب بافنوس في هدايتها والعودة ثانية إلى صومعته في الصحراء. إلى هنا وتنتهي الحكاية التاريخية. لكن شيطان الفن لا يكتفي بذلك، إذ لو اكتفى لكانت القصة خبرا تاريخيا لا يستحق الوقوف عنده. فقد غير الكاتب في الثيمة الأساسية للحكاية.
فبعد أن نجح الراهب في هداية تاييس وقع في غوايتها وهام بها حبا. وظل بقية حياته يقاوم هذا الحب إلى أن علم أن تاييس في النزع الأخير فهجر الرهبنة وترك خلفه كل شيء وذهب إليها كي يبثها حبه ويحتضنها بلهفة جنسية وهي على فراش الموت في دير الراهبات. رافق ذلك تجديف بحق الرب، ما جعل كبيرة الراهبات تقوم بطرده ويلعنه الجميع. ومضى يجرجر أذيال الخيبة. فلا هو حافظ على دينه وآخرته، ولا هو الذي فاز بمتع الدنيا. لقد خسر القديس بافنوس كل شيء.
لقد تحولت الحكاية إذن من مجرد هداية امرأة غانية إلى صراع مرير بين الرغبات الدنيوية ممثلة في حب تاييس والرغبات الأخروية التي تعني التحرر من الدنيا والفناء في المسيح. كان هذا هو الهيكل العظمي للرواية، وقد كسا الروائي الفرنسي هذا الهيكل بأمرين:
أولهما جوهري وهو المناقشات الفكرية والفلسفية التي سادت في ربوع النص، وإن تركزت بشكل خاص في فصل المأدبة الذي حاكى فيه مأدبة أفلاطون الشهيرة. وكان أهم ما يميزه مناقشة العقائد الدينية ومقارنتها بالفلسفة الإغريقية، حيث رأى البعض أن المسيحية استعارت أصولها من الميثولوجيات الإغريقية القديمة. كما تناولت الرواية الخلاف الدائر بين الطوائف المسيحية، هذا الخلاف الذي تركز حول السيد المسيح، خاصة موقف أريوس الذي رفض ألوهية السيد المسيح، أو على الأقل مساواته لله في جوهر واحد، فتم حرمانه بقرار من خلال مجمع كنسي. وهكذا حفل هذا المتن الحكائي الباذخ بالمناقشات الفلسفية العميقة والخلافات الدينية الداخلية. ومن الواضح أن الكاتب كان محايدا مع جميع الشخصيات، ماعدا الراهب بافنوس ممثل المسيحية الأرثوذكسية، فقد جعل كل شخص يعبر عن فكره بحرية بدءا بالفلاسفة ثم الوثنيين وأخيرا أريوس. وعندما يعرض للمسيحية يقف طويلا عند تغلغل
الأساطير والخرافات بين العوام. ففي حين كان الراهب بافنوس يعاني من سيطرة شهوة تاييس على روحه، وقد انهزم الدين في داخله أمام الشيطان: كانت العامة تردد الأعمال الخارقة للناسك بافنوس، الذي طار إلى السماء، بل زعم البعض أنه رآه بأم عينيه يطير.
استعرض فرانس حياة تاييس حيث عاشت طفولة معذبة مهملة من أبويها، تقضي معظم وقتها بين السكارى في الحانة التي يديرها والدها
أما الأمر الآخر الذي وشّح به الكاتب جدران الرواية فهو التفاصيل. فقد استغرق صاحب النص في ذكر التفاصيل حول كيفية معيشة الرهبان في صحراء مصر وأديرتها ورحلة القديس بافنوس إلى الإسكندرية، ثم تفاصيل حياة تاييس منذ الطفولة وكيف تدرجت في مراتب الرذيلة وصارت ممثلة المسرح الأولى التي تجتذب الرجال لحضور مسرحياتها. ومدينة الإسكندرية التي ورثت روما وأثينا، أصبحت مركزا للحضارة في العصرين الروماني والبيزنطي وكانت مسرحا للصراع بين الدين والفلسفة، كما كانت مرتعا لكل الشرور والآثام كما يراها الراهب.
بدأت الأحداث في الرواية بالتعريف بشخصية بافنوس الربانية وحياة الزهد والتقشف التي كان يحياها . ثم لحظة قراره في أن يذهب إلى الإسكندرية لهداية هذه الفاتنة المتهتكة التي تدعى تاييس إلى طريق المسيح والتوبة مما هي عليه. ثم يستغرق في وصف الرحلة إلى الإسكندرية وهناك يذهب إلى رفيق الدراسة نيسياس ليستعير منه حلة زاهية وبعض النقود ويتناقشان في أمور الدين والفلسفة. فيخرج للذهاب إلى المسرح ويشاهد إحدى مسرحيات تاييس، ثم يذهب إلى بيتها.
أما في الفصل التالي فيستعرض أناتول فرانس حياة تاييس منذ طفولتها، حيث عاشت طفولة معذبة مهملة من أبويها، تقضي معظم وقتها بين السكارى في الحانة التي يديرها أبوها. ولا يهتم بها سوى خادم أسود يدعى أحمس الذي يحيطها بالحنان ويكون هذا الخادم مؤمنا بالمسيح ويأخذ بتعريفها بالديانة المسيحية شيئا فشيئا، وعندما تبلغ التاسعة من عمرها يأخذها للكنيسة حيث يتم تعميدها. لكن هذا الخادم الطيب يقتل بسبب تهمة باطلة ويعده المسيحيون قديسا ويمنحونه لقب ثيودور النوبي. تلتقط تاييس عجوز شمطاء تعلمها فنون التمثيل، الغناء والرقص، ثم تقدمها للأثرياء للترفيه عنهم فتنهال الأموال على تاييس الماجنة، ثم تتحول إلى رمز للغواية. وسط هذه الأجواء من المجد والقلق وصل بافنوس الذي أدهشها بمنظره الغريب وقد ظنته في البداية ساحرا يمتلك أسرار مقاومة الشيخوخة. فرأت أن تهب نفسها له. لكنه أبى وأعرض ثم عرض عليها التوبة والرجوع إلى طريق الفضيلة والعفة. عندما علم أنها تلقت التعميد في طفولتها فرح بذلك وبشرها بالخلاص ومحبة المسيح. لقد كانت شهوة تاييس تشتعل في نفسه حتى وهو في أقرب لحظاته إلى الله. وأظهر عشقه الشديد لها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. فعشقه لها لم يمت، بل ظل كامنا في نفسه، حيث قام بعملية إعلاء بالمفهوم الفرويدي لهذا الهيام بتحويله إلى العشق الإلهي. فهذا البطل الذي كرّس حياته لخدمة الرب ظلت نفسه مسرحا للصراع بين الخير والشر، الله والشيطان، متع الدنيا ووعود الآخرة.
وأخيرا بين الشك واليقين، وسقوطه في النهاية كان متوقعا. لقد جمعت هذه الرواية بين دفتيها الزهد، الورع، التقوى من جهة، والمجون من جهة أخرى كما عبرت عن التنافر والتنابذ بين الغوغاء ورجال الدولة والفلاسفة ورجال الدين. لعل الرواية الأبرز التي تتآخى تناصيا مع رواية «تاييس» هي رواية عزازيل «الشيطان» ليوسف زيدان في اتخاد المسيحية مسرحا للصراع، أو ما أطلق عليه النقاد، الأدب المحظور.
استعرض فرانس حياة تاييس حيث عاشت طفولة معذبة مهملة من أبويها، تقضي معظم وقتها بين السكارى في الحانة التي يديرها والدها
أما الأمر الآخر الذي وشّح به الكاتب جدران الرواية فهو التفاصيل. فقد استغرق صاحب النص في ذكر التفاصيل حول كيفية معيشة الرهبان في صحراء مصر وأديرتها ورحلة القديس بافنوس إلى الإسكندرية، ثم تفاصيل حياة تاييس منذ الطفولة وكيف تدرجت في مراتب الرذيلة وصارت ممثلة المسرح الأولى التي تجتذب الرجال لحضور مسرحياتها. ومدينة الإسكندرية التي ورثت روما وأثينا، أصبحت مركزا للحضارة في العصرين الروماني والبيزنطي وكانت مسرحا للصراع بين الدين والفلسفة، كما كانت مرتعا لكل الشرور والآثام كما يراها الراهب.
بدأت الأحداث في الرواية بالتعريف بشخصية بافنوس الربانية وحياة الزهد والتقشف التي كان يحياها . ثم لحظة قراره في أن يذهب إلى الإسكندرية لهداية هذه الفاتنة المتهتكة التي تدعى تاييس إلى طريق المسيح والتوبة مما هي عليه. ثم يستغرق في وصف الرحلة إلى الإسكندرية وهناك يذهب إلى رفيق الدراسة نيسياس ليستعير منه حلة زاهية وبعض النقود ويتناقشان في أمور الدين والفلسفة. فيخرج للذهاب إلى المسرح ويشاهد إحدى مسرحيات تاييس، ثم يذهب إلى بيتها.
أما في الفصل التالي فيستعرض أناتول فرانس حياة تاييس منذ طفولتها، حيث عاشت طفولة معذبة مهملة من أبويها، تقضي معظم وقتها بين السكارى في الحانة التي يديرها أبوها. ولا يهتم بها سوى خادم أسود يدعى أحمس الذي يحيطها بالحنان ويكون هذا الخادم مؤمنا بالمسيح ويأخذ بتعريفها بالديانة المسيحية شيئا فشيئا، وعندما تبلغ التاسعة من عمرها يأخذها للكنيسة حيث يتم تعميدها. لكن هذا الخادم الطيب يقتل بسبب تهمة باطلة ويعده المسيحيون قديسا ويمنحونه لقب ثيودور النوبي. تلتقط تاييس عجوز شمطاء تعلمها فنون التمثيل، الغناء والرقص، ثم تقدمها للأثرياء للترفيه عنهم فتنهال الأموال على تاييس الماجنة، ثم تتحول إلى رمز للغواية. وسط هذه الأجواء من المجد والقلق وصل بافنوس الذي أدهشها بمنظره الغريب وقد ظنته في البداية ساحرا يمتلك أسرار مقاومة الشيخوخة. فرأت أن تهب نفسها له. لكنه أبى وأعرض ثم عرض عليها التوبة والرجوع إلى طريق الفضيلة والعفة. عندما علم أنها تلقت التعميد في طفولتها فرح بذلك وبشرها بالخلاص ومحبة المسيح. لقد كانت شهوة تاييس تشتعل في نفسه حتى وهو في أقرب لحظاته إلى الله. وأظهر عشقه الشديد لها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. فعشقه لها لم يمت، بل ظل كامنا في نفسه، حيث قام بعملية إعلاء بالمفهوم الفرويدي لهذا الهيام بتحويله إلى العشق الإلهي. فهذا البطل الذي كرّس حياته لخدمة الرب ظلت نفسه مسرحا للصراع بين الخير والشر، الله والشيطان، متع الدنيا ووعود الآخرة.
وأخيرا بين الشك واليقين، وسقوطه في النهاية كان متوقعا. لقد جمعت هذه الرواية بين دفتيها الزهد، الورع، التقوى من جهة، والمجون من جهة أخرى كما عبرت عن التنافر والتنابذ بين الغوغاء ورجال الدولة والفلاسفة ورجال الدين. لعل الرواية الأبرز التي تتآخى تناصيا مع رواية «تاييس» هي رواية عزازيل «الشيطان» ليوسف زيدان في اتخاد المسيحية مسرحا للصراع، أو ما أطلق عليه النقاد، الأدب المحظور.
بقلم الناقد الادبي والسينمائي ناصر الحرشي