اخبار عاجلة

رواية‭ ‬‮«‬تاييس‮»‬‭ ‬للفرنسي‭ ‬أناتول‭ ‬فرانس: البعد‭ ‬الإلهي‭ ‬والشيطاني‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الإنسان .

 

ينطلق‭ ‬الفعل‭ ‬الأساسي‭ ‬المولد‭ ‬للحكي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬تاييس‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬أناتول‭ ‬فرانس‭ ‬من‭ ‬حادثة‭ ‬تاريخية،‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬شخصية‭ ‬تاريخية‭ ‬عاشت‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الميلادي‭. ‬وتاييس‭ ‬كانت‭ ‬امرأة‭ ‬فاسقة‭ ‬تغوي‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الرجال،‭ ‬وقد‭ ‬نجح‭ ‬الراهب‭ ‬بافنوس‭ ‬في‭ ‬هدايتها‭ ‬والعودة‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬صومعته‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭. ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬وتنتهي‭ ‬الحكاية‭ ‬التاريخية‭. ‬لكن‭ ‬شيطان‭ ‬الفن‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بذلك،‭ ‬إذ‭ ‬لو‭ ‬اكتفى‭ ‬لكانت‭ ‬القصة‭ ‬خبرا‭ ‬تاريخيا‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬الوقوف‭ ‬عنده‭. ‬فقد‭ ‬غير‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬الثيمة‭ ‬الأساسية‭ ‬للحكاية‭. ‬

فبعد‭ ‬أن‭ ‬نجح‭ ‬الراهب‭ ‬في‭ ‬هداية‭ ‬تاييس‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬غوايتها‭ ‬وهام‭ ‬بها‭ ‬حبا‭. ‬وظل‭ ‬بقية‭ ‬حياته‭ ‬يقاوم‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬علم‭ ‬أن‭ ‬تاييس‭ ‬في‭ ‬النزع‭ ‬الأخير‭ ‬فهجر‭ ‬الرهبنة‭ ‬وترك‭ ‬خلفه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وذهب‭ ‬إليها‭ ‬كي‭ ‬يبثها‭ ‬حبه‭ ‬ويحتضنها‭ ‬بلهفة‭ ‬جنسية‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬دير‭ ‬الراهبات‭. ‬رافق‭ ‬ذلك‭ ‬تجديف‭ ‬بحق‭ ‬الرب،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬كبيرة‭ ‬الراهبات‭ ‬تقوم‭ ‬بطرده‭ ‬ويلعنه‭ ‬الجميع‭. ‬ومضى‭ ‬يجرجر‭ ‬أذيال‭ ‬الخيبة‭. ‬فلا‭ ‬هو‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬دينه‭ ‬وآخرته،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬فاز‭ ‬بمتع‭ ‬الدنيا‭. ‬لقد‭ ‬خسر‭ ‬القديس‭ ‬بافنوس‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.

لقد‭ ‬تحولت‭ ‬الحكاية‭ ‬إذن‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬هداية‭ ‬امرأة‭ ‬غانية‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬مرير‭ ‬بين‭ ‬الرغبات‭ ‬الدنيوية‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬تاييس‭ ‬والرغبات‭ ‬الأخروية‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭ ‬والفناء‭ ‬في‭ ‬المسيح‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الهيكل‭ ‬العظمي‭ ‬للرواية،‭ ‬وقد‭ ‬كسا‭ ‬الروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬هذا‭ ‬الهيكل‭ ‬بأمرين‭:‬

أولهما‭ ‬جوهري‭ ‬وهو‭ ‬المناقشات‭ ‬الفكرية‭ ‬والفلسفية‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬النص،‭ ‬وإن‭ ‬تركزت‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬المأدبة‭ ‬الذي‭ ‬حاكى‭ ‬فيه‭ ‬مأدبة‭ ‬أفلاطون‭ ‬الشهيرة‭. ‬وكان‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يميزه‭ ‬مناقشة‭ ‬العقائد‭ ‬الدينية‭ ‬ومقارنتها‭ ‬بالفلسفة‭ ‬الإغريقية،‭ ‬حيث‭ ‬رأى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬المسيحية‭ ‬استعارت‭ ‬أصولها‭ ‬من‭ ‬الميثولوجيات‭ ‬الإغريقية‭ ‬القديمة‭. ‬كما‭ ‬تناولت‭ ‬الرواية‭ ‬الخلاف‭ ‬الدائر‭ ‬بين‭ ‬الطوائف‭ ‬المسيحية،‭ ‬هذا‭ ‬الخلاف‭ ‬الذي‭ ‬تركز‭ ‬حول‭ ‬السيد‭ ‬المسيح،‭ ‬خاصة‭ ‬موقف‭ ‬أريوس‭ ‬الذي‭ ‬رفض‭ ‬ألوهية‭ ‬السيد‭ ‬المسيح،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬مساواته‭ ‬لله‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬واحد،‭ ‬فتم‭ ‬حرمانه‭ ‬بقرار‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مجمع‭ ‬كنسي‭. ‬وهكذا‭ ‬حفل‭ ‬هذا‭ ‬المتن‭ ‬الحكائي‭ ‬الباذخ‭ ‬بالمناقشات‭ ‬الفلسفية‭ ‬العميقة‭ ‬والخلافات‭ ‬الدينية‭ ‬الداخلية‭. ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬كان‭ ‬محايدا‭ ‬مع‭ ‬جميع‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ماعدا‭ ‬الراهب‭ ‬بافنوس‭ ‬ممثل‭ ‬المسيحية‭ ‬الأرثوذكسية،‭ ‬فقد‭ ‬جعل‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬فكره‭ ‬بحرية‭ ‬بدءا‭ ‬بالفلاسفة‭ ‬ثم‭ ‬الوثنيين‭ ‬وأخيرا‭ ‬أريوس‭. ‬وعندما‭ ‬يعرض‭ ‬للمسيحية‭ ‬يقف‭ ‬طويلا‭ ‬عند‭ ‬تغلغل‭ ‬

‭ ‬الأساطير‭ ‬والخرافات‭ ‬بين‭ ‬العوام‭. ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الراهب‭ ‬بافنوس‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬شهوة‭ ‬تاييس‭ ‬على‭ ‬روحه،‭ ‬وقد‭ ‬انهزم‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬أمام‭ ‬الشيطان‭: ‬كانت‭ ‬العامة‭ ‬تردد‭ ‬الأعمال‭ ‬الخارقة‭ ‬للناسك‭ ‬بافنوس،‭ ‬الذي‭ ‬طار‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬بل‭ ‬زعم‭ ‬البعض‭ ‬أنه‭ ‬رآه‭ ‬بأم‭ ‬عينيه‭ ‬يطير‭. 

استعرض فرانس حياة تاييس حيث عاشت طفولة معذبة مهملة من أبويها، تقضي معظم وقتها بين السكارى في الحانة التي يديرها والدها

أما‭ ‬الأمر‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬وشّح‭ ‬به‭ ‬الكاتب‭ ‬جدران‭ ‬الرواية‭ ‬فهو‭ ‬التفاصيل‭. ‬فقد‭ ‬استغرق‭ ‬صاحب‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬التفاصيل‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬معيشة‭ ‬الرهبان‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬مصر‭ ‬وأديرتها‭ ‬ورحلة‭ ‬القديس‭ ‬بافنوس‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬ثم‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياة‭ ‬تاييس‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭ ‬وكيف‭ ‬تدرجت‭ ‬في‭ ‬مراتب‭ ‬الرذيلة‭ ‬وصارت‭ ‬ممثلة‭ ‬المسرح‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تجتذب‭ ‬الرجال‭ ‬لحضور‭ ‬مسرحياتها‭. ‬ومدينة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬التي‭ ‬ورثت‭ ‬روما‭ ‬وأثينا،‭ ‬أصبحت‭ ‬مركزا‭ ‬للحضارة‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الروماني‭ ‬والبيزنطي‭ ‬وكانت‭ ‬مسرحا‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والفلسفة،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬مرتعا‭ ‬لكل‭ ‬الشرور‭ ‬والآثام‭ ‬كما‭ ‬يراها‭ ‬الراهب‭. ‬

بدأت‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬بالتعريف‭ ‬بشخصية‭ ‬بافنوس‭ ‬الربانية‭ ‬وحياة‭ ‬الزهد‭ ‬والتقشف‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحياها‭ . ‬ثم‭ ‬لحظة‭ ‬قراره‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬لهداية‭ ‬هذه‭ ‬الفاتنة‭ ‬المتهتكة‭ ‬التي‭ ‬تدعى‭ ‬تاييس‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬المسيح‭ ‬والتوبة‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭. ‬ثم‭ ‬يستغرق‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬وهناك‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬رفيق‭ ‬الدراسة‭ ‬نيسياس‭ ‬ليستعير‭ ‬منه‭ ‬حلة‭ ‬زاهية‭ ‬وبعض‭ ‬النقود‭ ‬ويتناقشان‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬الدين‭ ‬والفلسفة‭. ‬فيخرج‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬ويشاهد‭ ‬إحدى‭ ‬مسرحيات‭ ‬تاييس،‭ ‬ثم‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬بيتها‭. ‬

أما‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬التالي‭ ‬فيستعرض‭ ‬أناتول‭ ‬فرانس‭ ‬حياة‭ ‬تاييس‭ ‬منذ‭ ‬طفولتها،‭ ‬حيث‭ ‬عاشت‭ ‬طفولة‭ ‬معذبة‭ ‬مهملة‭ ‬من‭ ‬أبويها،‭ ‬تقضي‭ ‬معظم‭ ‬وقتها‭ ‬بين‭ ‬السكارى‭ ‬في‭ ‬الحانة‭ ‬التي‭ ‬يديرها‭ ‬أبوها‭. ‬ولا‭ ‬يهتم‭ ‬بها‭ ‬سوى‭ ‬خادم‭ ‬أسود‭ ‬يدعى‭ ‬أحمس‭ ‬الذي‭ ‬يحيطها‭ ‬بالحنان‭ ‬ويكون‭ ‬هذا‭ ‬الخادم‭ ‬مؤمنا‭ ‬بالمسيح‭ ‬ويأخذ‭ ‬بتعريفها‭  ‬بالديانة‭ ‬المسيحية‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا،‭ ‬وعندما‭ ‬تبلغ‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬يأخذها‭ ‬للكنيسة‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تعميدها‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الخادم‭ ‬الطيب‭ ‬يقتل‭ ‬بسبب‭ ‬تهمة‭ ‬باطلة‭ ‬ويعده‭ ‬المسيحيون‭ ‬قديسا‭ ‬ويمنحونه‭ ‬لقب‭ ‬ثيودور‭ ‬النوبي‭. ‬تلتقط‭ ‬تاييس‭ ‬عجوز‭ ‬شمطاء‭ ‬تعلمها‭ ‬فنون‭ ‬التمثيل،‭ ‬الغناء‭ ‬والرقص،‭ ‬ثم‭ ‬تقدمها‭ ‬للأثرياء‭ ‬للترفيه‭ ‬عنهم‭ ‬فتنهال‭ ‬الأموال‭ ‬على‭ ‬تاييس‭ ‬الماجنة،‭ ‬ثم‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬للغواية‭. ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭ ‬من‭ ‬المجد‭ ‬والقلق‭ ‬وصل‭ ‬بافنوس‭ ‬الذي‭ ‬أدهشها‭ ‬بمنظره‭ ‬الغريب‭ ‬وقد‭ ‬ظنته‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬ساحرا‭ ‬يمتلك‭ ‬أسرار‭ ‬مقاومة‭ ‬الشيخوخة‭. ‬فرأت‭ ‬أن‭ ‬تهب‭ ‬نفسها‭ ‬له‭. ‬لكنه‭ ‬أبى‭ ‬وأعرض‭ ‬ثم‭ ‬عرض‭ ‬عليها‭ ‬التوبة‭ ‬والرجوع‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬الفضيلة‭ ‬والعفة‭. ‬عندما‭ ‬علم‭ ‬أنها‭ ‬تلقت‭ ‬التعميد‭ ‬في‭ ‬طفولتها‭ ‬فرح‭ ‬بذلك‭ ‬وبشرها‭ ‬بالخلاص‭ ‬ومحبة‭ ‬المسيح‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬شهوة‭ ‬تاييس‭ ‬تشتعل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬لحظاته‭ ‬إلى‭ ‬الله‭. ‬وأظهر‭ ‬عشقه‭ ‬الشديد‭ ‬لها‭ ‬وهي‭ ‬تلفظ‭ ‬أنفاسها‭ ‬الأخيرة‭. ‬فعشقه‭ ‬لها‭ ‬لم‭ ‬يمت،‭ ‬بل‭ ‬ظل‭ ‬كامنا‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬حيث‭ ‬قام‭ ‬بعملية‭ ‬إعلاء‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الفرويدي‭ ‬لهذا‭ ‬الهيام‭ ‬بتحويله‭ ‬إلى‭ ‬العشق‭ ‬الإلهي‭. ‬فهذا‭ ‬البطل‭ ‬الذي‭ ‬كرّس‭ ‬حياته‭ ‬لخدمة‭ ‬الرب‭ ‬ظلت‭ ‬نفسه‭ ‬مسرحا‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬الله‭ ‬والشيطان،‭ ‬متع‭ ‬الدنيا‭ ‬ووعود‭ ‬الآخرة‭. ‬

وأخيرا‭ ‬بين‭ ‬الشك‭ ‬واليقين،‭ ‬وسقوطه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬كان‭ ‬متوقعا‭. ‬لقد‭ ‬جمعت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بين‭ ‬دفتيها‭ ‬الزهد،‭ ‬الورع،‭ ‬التقوى‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والمجون‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬كما‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬التنافر‭ ‬والتنابذ‭ ‬بين‭ ‬الغوغاء‭ ‬ورجال‭ ‬الدولة‭ ‬والفلاسفة‭ ‬ورجال‭ ‬الدين‭. ‬لعل‭ ‬الرواية‭ ‬الأبرز‭ ‬التي‭ ‬تتآخى‭ ‬تناصيا‭ ‬مع‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬تاييس‮»‬‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬عزازيل‭ ‬‮«‬الشيطان‮»‬‭ ‬ليوسف‭ ‬زيدان‭ ‬في‭ ‬اتخاد‭ ‬المسيحية‭ ‬مسرحا‭ ‬للصراع،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬أطلق‭  ‬عليه‭ ‬النقاد،‭ ‬الأدب‭ ‬المحظور‭.‬

استعرض فرانس حياة تاييس حيث عاشت طفولة معذبة مهملة من أبويها، تقضي معظم وقتها بين السكارى في الحانة التي يديرها والدها

أما‭ ‬الأمر‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬وشّح‭ ‬به‭ ‬الكاتب‭ ‬جدران‭ ‬الرواية‭ ‬فهو‭ ‬التفاصيل‭. ‬فقد‭ ‬استغرق‭ ‬صاحب‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬التفاصيل‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬معيشة‭ ‬الرهبان‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬مصر‭ ‬وأديرتها‭ ‬ورحلة‭ ‬القديس‭ ‬بافنوس‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬ثم‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياة‭ ‬تاييس‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭ ‬وكيف‭ ‬تدرجت‭ ‬في‭ ‬مراتب‭ ‬الرذيلة‭ ‬وصارت‭ ‬ممثلة‭ ‬المسرح‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تجتذب‭ ‬الرجال‭ ‬لحضور‭ ‬مسرحياتها‭. ‬ومدينة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬التي‭ ‬ورثت‭ ‬روما‭ ‬وأثينا،‭ ‬أصبحت‭ ‬مركزا‭ ‬للحضارة‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الروماني‭ ‬والبيزنطي‭ ‬وكانت‭ ‬مسرحا‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والفلسفة،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬مرتعا‭ ‬لكل‭ ‬الشرور‭ ‬والآثام‭ ‬كما‭ ‬يراها‭ ‬الراهب‭. ‬

بدأت‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬بالتعريف‭ ‬بشخصية‭ ‬بافنوس‭ ‬الربانية‭ ‬وحياة‭ ‬الزهد‭ ‬والتقشف‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحياها‭ . ‬ثم‭ ‬لحظة‭ ‬قراره‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬لهداية‭ ‬هذه‭ ‬الفاتنة‭ ‬المتهتكة‭ ‬التي‭ ‬تدعى‭ ‬تاييس‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬المسيح‭ ‬والتوبة‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭. ‬ثم‭ ‬يستغرق‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬وهناك‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬رفيق‭ ‬الدراسة‭ ‬نيسياس‭ ‬ليستعير‭ ‬منه‭ ‬حلة‭ ‬زاهية‭ ‬وبعض‭ ‬النقود‭ ‬ويتناقشان‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬الدين‭ ‬والفلسفة‭. ‬فيخرج‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬ويشاهد‭ ‬إحدى‭ ‬مسرحيات‭ ‬تاييس،‭ ‬ثم‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬بيتها‭. ‬

أما‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬التالي‭ ‬فيستعرض‭ ‬أناتول‭ ‬فرانس‭ ‬حياة‭ ‬تاييس‭ ‬منذ‭ ‬طفولتها،‭ ‬حيث‭ ‬عاشت‭ ‬طفولة‭ ‬معذبة‭ ‬مهملة‭ ‬من‭ ‬أبويها،‭ ‬تقضي‭ ‬معظم‭ ‬وقتها‭ ‬بين‭ ‬السكارى‭ ‬في‭ ‬الحانة‭ ‬التي‭ ‬يديرها‭ ‬أبوها‭. ‬ولا‭ ‬يهتم‭ ‬بها‭ ‬سوى‭ ‬خادم‭ ‬أسود‭ ‬يدعى‭ ‬أحمس‭ ‬الذي‭ ‬يحيطها‭ ‬بالحنان‭ ‬ويكون‭ ‬هذا‭ ‬الخادم‭ ‬مؤمنا‭ ‬بالمسيح‭ ‬ويأخذ‭ ‬بتعريفها‭ ‬بالديانة‭ ‬المسيحية‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا،‭ ‬وعندما‭ ‬تبلغ‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬يأخذها‭ ‬للكنيسة‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تعميدها‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الخادم‭ ‬الطيب‭ ‬يقتل‭ ‬بسبب‭ ‬تهمة‭ ‬باطلة‭ ‬ويعده‭ ‬المسيحيون‭ ‬قديسا‭ ‬ويمنحونه‭ ‬لقب‭ ‬ثيودور‭ ‬النوبي‭. ‬تلتقط‭ ‬تاييس‭ ‬عجوز‭ ‬شمطاء‭ ‬تعلمها‭ ‬فنون‭ ‬التمثيل،‭ ‬الغناء‭ ‬والرقص،‭ ‬ثم‭ ‬تقدمها‭ ‬للأثرياء‭ ‬للترفيه‭ ‬عنهم‭ ‬فتنهال‭ ‬الأموال‭ ‬على‭ ‬تاييس‭ ‬الماجنة،‭ ‬ثم‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬للغواية‭. ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭ ‬من‭ ‬المجد‭ ‬والقلق‭ ‬وصل‭ ‬بافنوس‭ ‬الذي‭ ‬أدهشها‭ ‬بمنظره‭ ‬الغريب‭ ‬وقد‭ ‬ظنته‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬ساحرا‭ ‬يمتلك‭ ‬أسرار‭ ‬مقاومة‭ ‬الشيخوخة‭. ‬فرأت‭ ‬أن‭ ‬تهب‭ ‬نفسها‭ ‬له‭. ‬لكنه‭ ‬أبى‭ ‬وأعرض‭ ‬ثم‭ ‬عرض‭ ‬عليها‭ ‬التوبة‭ ‬والرجوع‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬الفضيلة‭ ‬والعفة‭. ‬عندما‭ ‬علم‭ ‬أنها‭ ‬تلقت‭ ‬التعميد‭ ‬في‭ ‬طفولتها‭ ‬فرح‭ ‬بذلك‭ ‬وبشرها‭ ‬بالخلاص‭ ‬ومحبة‭ ‬المسيح‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬شهوة‭ ‬تاييس‭ ‬تشتعل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬لحظاته‭ ‬إلى‭ ‬الله‭. ‬وأظهر‭ ‬عشقه‭ ‬الشديد‭ ‬لها‭ ‬وهي‭ ‬تلفظ‭ ‬أنفاسها‭ ‬الأخيرة‭. ‬فعشقه‭ ‬لها‭ ‬لم‭ ‬يمت،‭ ‬بل‭ ‬ظل‭ ‬كامنا‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬حيث‭ ‬قام‭ ‬بعملية‭ ‬إعلاء‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الفرويدي‭ ‬لهذا‭ ‬الهيام‭ ‬بتحويله‭ ‬إلى‭ ‬العشق‭ ‬الإلهي‭. ‬فهذا‭ ‬البطل‭ ‬الذي‭ ‬كرّس‭ ‬حياته‭ ‬لخدمة‭ ‬الرب‭ ‬ظلت‭ ‬نفسه‭ ‬مسرحا‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬الله‭ ‬والشيطان،‭ ‬متع‭ ‬الدنيا‭ ‬ووعود‭ ‬الآخرة‭. ‬

وأخيرا‭ ‬بين‭ ‬الشك‭ ‬واليقين،‭ ‬وسقوطه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬كان‭ ‬متوقعا‭. ‬لقد‭ ‬جمعت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بين‭ ‬دفتيها‭ ‬الزهد،‭ ‬الورع،‭ ‬التقوى‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والمجون‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬كما‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬التنافر‭ ‬والتنابذ‭ ‬بين‭ ‬الغوغاء‭ ‬ورجال‭ ‬الدولة‭ ‬والفلاسفة‭ ‬ورجال‭ ‬الدين‭. ‬لعل‭ ‬الرواية‭ ‬الأبرز‭ ‬التي‭ ‬تتآخى‭ ‬تناصيا‭ ‬مع‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬تاييس‮»‬‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬عزازيل‭ ‬‮«‬الشيطان‮»‬‭ ‬ليوسف‭ ‬زيدان‭ ‬في‭ ‬اتخاد‭ ‬المسيحية‭ ‬مسرحا‭ ‬للصراع،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬النقاد،‭ ‬الأدب‭ ‬المحظور‭.‬

بقلم الناقد الادبي والسينمائي ناصر الحرشي

 


 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق