اخبار عاجلة
حسن لحمادي …..سيرة انسان …..حلم الطفولة في ظل حر صيف السراغنة.
ولدت بحي القلعة الراشية الذي كان محاطا بأسوار عالية وضخمة يصعب هدمها إذ كان يصل عرض الحائط الى اربعة أمتار. تكمن صلابة السور في مواد البناء التي كانت مستعملة منذ قرون من الزمن خليط من الجبص والاحجار والرمل والطين. وهذا يحيل على عظمة المشيد لهذا البنيان، السلطان مولاي اسماعيل. لكن التاريخ تم اغتياله قبل ولادتي باستعمال المتفجرات، تداعت الاسوار ومعها باب الناعورة وباب المحروق، لفسح المجال لزحف الحداثة في بعدها العمراني بظهور تجزئة القلعة الراشية.ظل سيدي المشكوك يصارع زحف العمران وهو ضريح تابع للمسلمين او اليهود السراغنة لهذا سمي بسيدي المشكوك كان مشكوكا في امره، البعض يزور الموقع للتبرك لكن بركة الضريح لم تشفع له إذ تم هدمه لإقامة مسجد الحسن الثاني بحي القلعة الراشية. بجانب الحي يتموقع جنان الهاشمي الذي كانت تكسوه اشجار الزيتون المعطاء، وسط هذه الخضرة وما تتيحه من رطوبة في عز الحر، تحتضنك ساقية “القايدية” التي يقال انها ملكية أحد قياد المنطقة لجلب مياه السقي من واد تساوت الذي يتغدى من جبال اقليم ازيلال. كنا نشبه “القايدية “بالمسبح الاولمبي، هذا المجرى المائي المتدفق ومن مسافات بعيدة،أحيانا يكون لونه ترابيا مختلطا بالطين خاصة عندما تضرب الامطار الرعدية في عالية الواد “تساوت العليا”، تتدفق هذه المياه بس عة في اتجاه السافلة “تساوت السفلى”. ورغم ذلك كان يمنح المراهقين والشباب سعادة لاتوصف، في غياب مسابح قريبة تطفئ حر الصيف..ترتمي الاجساد من على حافة الساقية في الماء البارد، تم تعود لتطفو على السطح تتزود بالشمس مثل البطاريات في جو تطبعه الفرجة ومظاهر البسط . نقضي ساعات وساعات في الماء، نستحم، نستمتع بالعطلة الصيفية كأننا في كورنيش عين الدياب. نعود إلى بيوتنا نجر وراءنا خيبة أمل، نتسلل الى بيوتنا خلسة، خوفا من العقاب ومن العصى التي ستروض اجسادنا المنهوكة، والسبب، أننا اخترنا السباحة في السواقي عوض تعلم حرفة أو مطالعة أمهات الكتب خلال العطلة الصيفية.. احيانا يتم اقتيادنا بالعنف في اتجاه الكتاب (لمسيد) من قبل آباءنا، هؤلاء لم يحالفهم الحظ في التحصيل المعرفي، كانوا يعتبرون حفظ القرآن أفضل طريقة لغرس الفضائل في نفوس الناشئة، ولبناء الانسان وتقويم الاعوجاج الحاصل في حياتنا كأطفال. عندما ينتهي الدرس الديني نهرول في اتجاه “القايدية” نحتفي بالسباحة ( العومان) نجد ظلتنا في الحرية المطلقة، نتحول إلى ملائكة تحت الماء. كنا نرقص على طريقتنا “رقصة البجع” التي صممها الموسيقار الروسي تشايكوفسكي ، كنا نتقن فن تقليد الحيوانات التي نشاهدها عبر التلفاز او التي كانت تقتسم معنا نفس الجغرافيا في مشهد سوريالي تؤطره مخيلتنا ورغبتنا في القطع مع طابع الرتابة في لمسيد والمدرسة. الاحتفاء بالماء البارد كان يتخذ عدة اشكال من حركات بهلوانية، وقهقهات تحت الماء وغناء باللغة الهندية كانت سينما أمحمد بنشليخة رحمه الله هي نافدتنا على الثقافة الهندية من خلال افلامها التي كانت تبعث فينا الامل بان الخير سينتصر على الشر، وان بطل الفيلم سيتزوج أجمل بنات الهند والسند كان الصفير يهز أركان قاعة السينما خاصة عندما كان بطل الفيلم الذي كنا نطلق عليه ب ” الولد” في مشهد رومانسي كنا نخفي خجلنا ونحن صغار كنا نذوب وسط الشاشة الكبرى كانت الصورة المحملة بالمعاني والرموز تسافر بنا عبر الزمن، التماهي الذي تحدث عنه كريسيان ميتز في السينما كنا نعيشه ونحن صغار، اي محاولة تقليد البطل وجعله حاملا لافكارنا وقيمنا. في الفيلم كنا نعشق الصور الجذابة، نتامل الوجود، نبني شخصية افتراضية عبر الخطاب الفيلمي الذي يغرق في تمجيد الأنا يضرب في المناطق الاكثر ظلمة في اللاوعي إنساني. بعد نهاية الفيلم نغادر القاعة المظلمة، نعود الى واقعنا الذي يشكل حقيقة وجودنا ومعيشنا اليومي .
كنا نكره الحرارة المفرطة التي كانت تزحف على مدينة قلعة السراغنة، حتى الإسفلت (الزفت) الذي يكسو الطرقات يذوب من فرط الحرارة مثل الشمع، تلتصق النعال الجلدية بالارض. أحيانا يتحول الحر الى سراب يحيلنا على افلام الويستيرن حيث العطش يقض مدجح بطل الفيلم، وحيث لا شيء يتحرك مابين الظهر والعصر، حتى طائر السنونو يختفي من المشهد. بين الفينة والاخرى كانت اعيننا شاخصة، كان ينتابنا الخوف من شباب حي الزاوية العتيق من مهاجمتنا وطردنا من “القايدية” ..إنها حرب المواقع للاستيلاء على المجاري المائية في عز فصل الصيف . كان هناك صراع ابدي بين الحيين كيف يمكن تقاسم الساقية المتدفقة، وتلبية حاجيات شباب الحيين ، احيانا كانت تنشب نزاعات بين الطرفين ينخرط فيها حتى الكبار إلى حين تدخل رجال الأمن. كان أبناء حي الزاوية يلقون بالحجارة من مسافات بعيدة، يصيبون أهدافهم، فتسيل الدماء بالطرف الآخر من المجرى. من المؤثرين في ذلك الوقت خلافا للمؤثرين الذين يمثلون الشهرة الزائفة في ايامنا هذه، كان المؤثرون لا يتكلمون لغة التفاهة والبزنيس بل لغة التهديد والوعيد احيانا ولغة السلام أحيانا أخرى. “كولومبو” وهو اسم مستعار، كان يتسم ببنية جسمانية قوية كان همه تحرير المجرى المائي من الغرباء سلوكه كان يغرق في الانانية والنرجيسية…بالمقابل كان سلطان القايدية” هو “طارزا ” كذلك اسم مستعار، ابن حي القلعة الراشية، لا صوت يعلو على صوت “طارزا “. كان طويل القامة بنيته تثير الرعب في شباب الحي، منزله يقع عند مفترق الطرق البرية، هذا الموقع كان يمنحه إمكانية مراقبة حركة تنقل الشباب والبضائع إلى جانبه شاب آخر “دوق فليد” قوي البنية رجل التحدي ملامحه تحيل على الانضباط والقوة كان شغوفا بالسينما الهندية ونجومها الكبار، احيانا كان يتقمص دور البطل في الأفلام التاريخية ذات الطابع الديني يتقن دور المخلص الذي كان يقتل الكفار، كانت تلك القصص والمشاهد تشكل آنذاك محطة للتثقيف وتغدية الروح في شهر رمضان ..كل واحد منا كانت تؤطره مجموعة من الافكار والهلوسات، كنا نحلم ان نصبح نجوما للسينما مثل جون بول بلموندو، رومبو، ان نعيش حياة أبطال المسلسل الامريكي “المنزل الصغير”.
شخصيا كنت اتماهى مع المغني البلجيكي جاك بريل الذي كان يخاطب مشاعرنا وأحلامنا عن بعد، كان بارعا في تجسيد الميلودرامات والتهكم من الاصدقاء والسياسيبن والنماذج التي طبعت حياته وحتى من الحب المفقود. كلماته وحركاته على المسرح كانت تحيل على الصدق والوفاء روحه كانت تسافر خارج العرض جسمه يتصبب عرقا. بفنه كان يحارب متلاشيات زمانه ونفاق التاريخ والسياسة اما اليوم فالفن نعيش أزمة ضمير وازمة أخلاق، لا صوت شجي ولا كلمات ثاقبة ولا رغبة عند بعض اشباه الفنانين في الاقلاع عن الغناء.
في الطفولة كنا ركب موج التحدي في زمن كان فيه الخيار الوحيد للشباب هو الدراسة ولا شيء غير الدراسة، حتى تصبح انسانا نافعا ومنتجا تسمو بشخصك وبإنسانتك قبل عائلتك. أو تجد نفسك في قبضة الدرك الملكي الوجهة الخدمة العسكرية. “دوق فليد” و”طارزا” كانا اكبر سنا منا بكثير بعد ذلك انخرطا في سلك الجندية بالقوات المسلحة الملكية. عند عودتهما في اطار رخصة مؤقة (برميسيون) يحكيان عن مغامراتهما و بطولاتهما في الجيش، إذ كانا يفتخران بالانتماء الى هذه المؤسسة في عز الحرب ضد الكيان الوهمي قبل بناء الجدار الامني.
حرب المياه لا تتوقف فحسب عند “القايدية” فالمسبح الطبيعي المسمى ” المغريب” كان خاضعا لسيطرة شباب حي جنان الشعيبي لا أحد يستطيع الاقتراب من المكان ..مسبح يتسع للجميع لكن سياسة الاحتواء التي كان ينهجها ابناء الحي تحرمنا من الاستحمام. كان “المغريب” انقى من القايدية كان يوجد في موقع استراتيجي. انها حرب المواقع التي تزداد شرارتها كلما ارتفع زئبق المحرار ( تيرموميتر) إلى درجات قياسية..لكن ذلك لا يخفي طيبوبة ولاد جنان الشعيبي وبراعتهم وقتاليتهم في المقابلات الكروية..هذه الندية الرياضية كانت تتجلى معالمها في دوريات الاحياء او خلال شهر رمضان. كانت أحياء القلعة الراشية لعوينة( أنظر أعلى الصورة)، جنان الشعيبي، الزاوية، جنان بكار،العرصة، درب الطونية، السويكية من بين أقوى فرق الأحياء بقلعة السراغنة، كأنك تتابع الديربي البيضاوي او مقابلات الليغا خاصة الملعب الاولمبي لحي جنان الشعيبي خلف ضريح سيدي عبد الرحمان(انظر الصورة أعلاه). كانت الدوريات في مستوى عال من التنظيم والحضور الجماهيري …كانت الجماهير متعطشة للكرة كانت تردد الهتافات، اعوان السلطة لمقدم والشيخ كانوا قلقين من دخول الشعارات السياسية الى الملعب خاصة مع تنامي الاحتجاجات الطلابية بالجامعات و تشبع الشباب بالفكر الشيوعي. من بين صناع هذه الفرجة المجانية في فصل الصيف، رموز اتذكرها استحضر اسم السعيد الشاعري ..الريم …هم مخرجون وراء الكاميرا يؤتثون الفرجة الرياضية بالمجان اقصد، يؤطرون الدوريات. في الاطوار النهائية يذوب اللاعبون وسط التدفقات البشرية المناصرة لفرقها كانت الدوريات تغري الشباب يتماهون مع النجوم في ذلك الوقت من ابناء الاحياء.
في الصيف كنا نشرب “المونادا” وهي عبارة عن مسحوق احمر يتم وضعه في آنية من الطين (خابية) تصل سعتها احيانا إلى خمسين لترا او اكثر، شراب مشبع بالسكر، يهيمن عليه اللون الوردي الذي يحيل على عصير ورود قلعة مكونة ، لكن كان بالنسبة لنا سائلا لذيذا، شرابا منعشا. الحمد لله ان هذا المشروب كان خاليا من الغازات التي تسبب انتفاخ البطن. كان “طارزا” يقتني دلاعة من السوق تم يضعها فوق كتفيه كانه يحمل رصيفا اسمنتيا. كل واحد منا كان يساهم في تاثيت الوليمة بجنان الهاشمي باللحم او الخضر او الزيت، اما السمين من بين الشباب، كانت مهمته تكمن في النفخ لتأجيح لهيب النار كان وجهه شاحبا تفوح منه رائحة الدخان بينما عيناه تصبحان حمروين من فرط النفخ مقابل تناول الطعام. في الصيف كان الشباب يحلقون رؤوسهم الى درجة الصفر هههههه للتخفيف من حدة الحرارة. لكن عند مرورك بالحي ينهال عليك بعض الفضوليين من الشباب بالضرب، كأن الأمر يتعلق بقرع الطبول ترتسم على رأسك الحليق الوان قوس قزح, كأنك مجرم حرب، ذنبك انك اخضعت راسك للحلاق الذي كان في ذلك الوقت يستمد سلطته الرمزية من صداقته بالعائلة، يجيد التصليعة ولا شيئا آخر، كانت اصابعه الرطبة تداعب شعرك في انسيابية قبل التخلص منها وحلقها بكامل ” الزيرو” في أطار دمقرطة الرؤوس، وهو طقس يرتبط اساسا بحلول موسم الصيف و بارتفاع درجة الحرارة. مقارنة بتسريحات الشعر التي يتباهى بها جيل اليوم مثل التشويكة والتايزن. من مغامرات الطفولة كنا نبتعد عن الحي في اتجاه طريق بنكرير لهدف واحد قطف فاكهة التوت التي كانت أشجارها تزين جنبات الطريق. يقال ان المعمر الفرنسي قام بغرس الكيلومترات من هذه الاشجار لتزيين الطريق وتوفير الظل للسائقين، أما في فصل الصيف تجد طوابير المراهقين تنتظر قطف فاكهة التوت. كان اندفاعنا الشبابي يقودنا الى تسلق الأشجار الباسقة والتسلل إلى اعشاش الطيور بحثا عن البيض، حيث كانت أحيانا تأوي الأفاعي والزواحف والنحل كذلك، كان تصرفنا تطبعه الجرأة والعفوية في تعاطينا مع الطبيعة.
نتنقل عبر الفضاءات ونسبح في مختلف المجاري المائية التي تخترق أراضي السراغنة . ولكي نطمس معالم الجريمة اي السباحة كنا نطلي اجسادنا بزيت لوسيور او زيت العود، حتى لا نثير انتباه اخوتنا الكبار تفاديا للعقاب لا لشيء سوى لاننا قضينا اليوم في السواقي. ومرد ذلك كما سمعنا ونحن صغار ان العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ مات بسبب حمى المستنقعات، إذ كان دائم التردد على نهر النيل العظيم من أجل السباحة، ما زاد من مخاوف الآباء على أبناءهم …كان الحديث عن حقوق الإنسان أمر مستهجنا في الطفولة، كانت حقوقنا مصادرة تبعا للتقاليد، لأن السلطة الأبوية كانت فوق الجميع في مجتمع ذكوري لا يؤمن بالإبداع والانفتاح والتعبير عن انتظاراتنا الثقافية كما هو معمول به في الغرب، بالفنون الجميلة وغيرها من أوجه الحداثة آنذاك .لكن بالمقابل حينما اعيد استحضار شريط الاحداث التي ميزت سنوات الثمانينيات يجرني الحنين إلى تلك الذكريات الجميلة التي اتسمت بالقناعة والبساطة والعفة، في زمن التحول التكنولوجي الذي طبع عالم الصورة. لا اتحدث هنا عن الصورة الرقمية التي جاءت نتاج التطور التقني، بل الانتقال البصري من الأبيض والأسود إلى التلفزيون المؤثت بالوان الطيف. كانت ثورة علمية كبيرة ونحن نشاهد عند ولد عطية عبد الرحيم صاحب مقهى، مونديال 86، كانت الألوان تخاطب مخيلتنا وأحلامنا وآمالنا، كانت تنقلنا من حقبة سطوة الابيض والاسود (الرتابة) الى حقبة الافتتان وسحر الألوان في مدينة كانت بمثابة مختبر تجارب لأجيال وأجيال، منها المناضلة سياسيا مثل عبد السلام المؤذن وسي بوبكر عرش ورحال أجبيهة وابن عمي حميد الزرورة رحمهم الله وآخرون لم اتذكر أسماءهم، كانوا يؤمنون بالتغيير من اجل غد افضل في ظل سنوات الرصاص، كانوا مفكرين، مثقفين سبقوا زمانهم لم ينصفهم التاريخ ظلوا رموزا شامخة في الذاكرة الجماعية للسراغنة شموخ الجبال . الى جانبهم كان هناك جيل من المثقفين والباحثين من بينهم عالم الانتروبولوجيا المشهور عبد الله حمودي وعالم السوسيولوجيا في الوطن العربي محمد الناجي والاعلامي الكبير المرحوم محمد المؤذن. ومنهم كثير من حفظة القران ومن حاملي كتاب الله.
الثمانينات ستشكل قطيعة مع الواقع الاجتماعي داخل فضاء السراغنة. سيحدث تحول جدري في منظومة القيم التي كان يؤمن بها الشباب بالقلعة. أي اصبح البحث عن آفاق أخرى امرا لامفر منه، معانقة نسائم الحرية والانفتاح بالضفة الشمالية للمتوسط. عرف الاقليم هجرة مكثفة الى إيطاليا قصد العمل من أجل تحديد وضع اعتباري لشريحة واسعة من المواطنين. إذ اتخذت الهجرة ذلك الطابع الجماعي خاصة قبل سنة 1989، إذ كان السفر الى ايطاليا عبر الطائرة بدون تأشيرة، ومعها تحولت معالم القلعة بدخول سيارات مرقمة بالخارج، الحديث باللغة الايطالية، وبالتالي سادت بعض مظاهر الثقافة الغربية شيئا فشيئا في المنطقة بسبب رياح التغيير التي هبت على الاقليم. فهذه الجالية يرجع لها الفضل في تنمية المنطقة واخراجها من دائرة الركود، بمساهماتها الاقتصادية وانقاذ آلاف الاسر من الفقر والحاجة. كما شيدت جسرا تواصليا بين القلعة والعالم.
فتحية لسراغنة الداخل والخارج الذين يستحضرون وقائع وأحداث من تلك الطفولة المنسية.
حسن لحمادي
ولد القلعة الراشية.