ثقافة و فنون
القراءة ..و حياة الكائن “تابع”
معنى العلم في الثقافة الغربية يحمل في محتواه معنى ينسجم و قيم مجتمعه، فالقيمة الحديثة و المعاصرة للعلم تقوم على فكرة الفصل بين الشيء في ذاته أو النومين و نعني به كل ما هو غير ظاهر و ملموس و غير قابل للحوسبة و التكميم، و منه الأخلاق و الدين و القيم ،فهذه المجالات لا تدخل في باب العلم ، و إذا تجوزنا نقول إنها قراءة دون العلم فأمر قراءتها يصدر من قناعة فردية لا تأثير لها في الواقع ، أما العلم فهو يختص بكل ما هو ظاهر قابل للتكميم و الحوسبة ، و منه يكون العلم قد انفصل في الثقافة الغربية عن معنى الحكمة و الأخلاق ، و في هذا يقول الفيلسوف الانجليزي برتلاند راسل ” فالقوة الجديدة للعلم تكون خيّرة بقدر الحكمة التي يتميز بهاالإنسان، فلابد إذن من زيادة الحكمة التي هي الإدراك السليم لغاية الحياة، و هذا لا يقدمه العلم، فالزيادة منه لا تكفي“، فراسل لا يعتبر الحكمة و الأخلاق من العلم بل إنه يفصل الأخلاق و الإنسان عن العلم ، فصار العلم “محايدا” لا توجهه إرادة الانسان المبنية على التبصر و الرشاد بقدر ما هو موجه بغاية السيطرة على الطبيعة بما في ذلك الإنسان.
أما الثقافة العربية الإسلامية فإنها لا تفصل بين آيات النفس وآيات الآفاق ، بل إنها جعلت الحكمة و الأخلاق أساسا لكل علم أفاقي أونفسي و في هذا يقول الجاحظ ”قال الأوائل حياة الحلم بالعلم، و حياة العلم بالبيان“ و منه يربط الحكمة و غايات الحياة بالعلم، و هكذا لا تقيم الحضارة الإسلامية فصلا بين العلم و الأخلاق بخلاف الواقع الإسلامي المعاصر الذي يقيم ذلك الفصل الغربي و إن بشكل غير واع لا يشعر به تحت وطأة صدمة الحداثة و اتباع نحلة الغالب، فكثير هم الذين لا يقرأون إلا ما يدخل في صلب تخصصهم المعرفي الذي غالبا ما يكون تقنيا صرفا، و هنا نقف أمام أهم مشكل في الثقافة العربية المعاصرة، فقد انفصل السياسي و الطبيب و العالم و التقني بشكل عام عن الحكمة،فوجدنا ما وجدناه من أناس في تخصصات مختلفة و بدبلومات كبير، لكن من غير أن ترتقي بهم شهاداتهم إلى مستوى الوعد الإلهي في الإنسان. فهم أبعد الناس ثقافة و إن كانوا أكثرهم تعليما، لأنهم في منأى عن الأدب و التاريخ و الفلسفة و الدين و الفن ، فهم و إن كانوا متعلمين فهم أقل إنسانية. فلو قدر لعلماء المسلمين فيما يقول روجي جارودي أن يبعثوا إلىالحياة، فإن دهشتهم لن تكون من التقدم في الأفكار التي ولدت أصلا في أحضانهم، بل إن دهشتهم ستكون من أن نظام القيم قد قلب رأسا على عقب، وسيرون أن مركز الرؤية التي انطلقوا منها صار هامشيا، و أن المحيط صار هو المركز ، و أن العلوم التي كانت في الدرجة الثانية قد تصدّرت الاهتمام في الغرب، و أما علم الحكمة الخالد فسيرون أنه تضاءل حتى يكاد ينعدم “فلا بد إذن من توحيد المزدوج و إعادة دمج المنفصل، و جعل الأخلاق و الحكمة مركزا لتحقيق كامل معنى القراءة.
فإذا اتضح المعنى و علاقة العلم بالقراءة و تبين ذلك التطابق، فإنه يتعين إبراز تأثير القراءة و أهميتها الحضارية في حياة الشعوب والأمم، فتاريخيا لم تخلد الحضارات على صفحات التاريخ إلا بفضل العلم و القراءة، و لم يكن التاريخ منفصلا عن الجغرافيا ، فكلما ازداد حظ الأمم من العلم إلا و ازداد مجال توسعها مكانيا من اليونان إلى الرومان و المسلمين ، و كأننا أمام شهادة وجودية لقول الله تعالى ّاقرأ و ربك الأكرم” ، و يمكن أن نوثق هذه الشهادة في عصرنا اليوم الذي تكاد تكون فيه نسبة الكلمة المطبوعة معيارا لتصنيف المجتمعات و الدول إلى دول متقدمة و دول متخلفة أو سائرة في طريق النمو ، و هو المعيار الذي لا حظه أرنولد تونبي حينما يرى أن “ارتفاع نسبة الكلمة المطبوعة هو الأساس الحضاري لتصنيف البلدان في العالم إلى بلدان متخلفة أو نامية أو متقدمةّ ” إن ما يجعلنا نذهب إلى هذا المعطى هو استقراؤنا لمجموعة من الإحصاءات العالمية التي تختص برصد عناوين الكتب الجديدة الصادرة في كل بلد،ذلك أن جميع الدول المتقدمة المعروفة تكون في صدارة دول العالم من حيث إنتاج عناوين الكتب، و في كل تلك الإحصاءات لا تأتي الدول العربية إلا في ذيل التصنيف ، فإذا كانت أمريكا تتقدم مجموع الدول من حيث عدد إصداراتها السنوية 328259 ألف عنوان جديد سنة 2010 لوحدها فإن بعض الدول لا تساهم إلا بسبعة كتب كدولة عمان سنة 1996 ، أو ب 15513 بالنسبة للمغرب في زمن يقارب الخمسين سنة، و هذه المساهمة الضعيفة تبين بشكل واضح ضعف نسبة القراءة في الوطن العربي الذي يعاني التخلف بكل مظاهره،
و إذا ما قارنا نسبة القراءة و شغفنا بها بتراثنا الإسلامي فسندرك آنئذ أننا لا نعاني تخلفا إزاء عصرنا و حسب، بل تخلفا حتى عن تاريخنا و تراثنا الحضاري ، إنه التخلف المزدوج، فقرطبة وحدها كانت توجد بها سبعون مكتبة ، أما مكتبة بغداد فكانت مركزا علميا و كل مكتبات الحواضر الإسلامية كذلك ، و في مقابل المكتبات العامة كانت هناك مكتبات خاصة يوظف أصحابها من يقيم عليها و يخصصون لهم أجرة .. فيما تحوي كل مكتبة الملايين من الكتب، ووصل شغف الإنسان العربي بالقراءة حدا صارت معه القراءة و ما يتصل بها تتعدد مع أنفاسه في حال العجز والمرض ، و في حال السفر و الحضر، و الفقر و الغنى، و في حال المشي و الاضطجاع،طلبا للأنس و اللذة أو السلوى، بل إن مبلغ حبه بها و افتتانه ورثه الزهد في الرياسة و المناصب تفرغا لها و إقبالا عليها، حتى قيل :“من المروءة حمل الدفاتر“، و ما كفاهم نهارهم بل إنهم قسموا أوقات ليلهم لمجالسة نديم لا يتأخر و جليس لا يغيب. و بلغ شغفه و حبه إلى أن صيّره شهيدا للكتاب و القراءة.
إننا لن نكون سادة لأنفسنا و للعالم ما لم نمتلك ناصية من العلم كما هو في تصورنا الحضاري الإسلامي ، و ما لم نتحقق من كلمة اقرأ التي هي تحريرية إذا ما استحضرنا سياقات النزول التاريخية ، فلم يكن أمر ترك الآبائية ،أي ما وجدوا عليه آباءهم ،هينا و سهلا ما لم تتحرر عقولهم بفعل القراءة ، ففاعلية التغيير و التحرير لا تتحقق إلا بها ، و كل فعل يسبقها يكون أقرب إلى العبث منه إلى الفعل الواعي، إذ لا تكفي الشجاعة المجردة عن التعقل، لذلك كان التنوير محددا عند الفلاسفة بكونه ” أن تكون لك الشجاعة على إعمال عقلك”. الأستاد: قبلي عبد الرحيم