اخبار عاجلة

الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس وتشييع جنازة الذاكرة الطفولية

عندما سئل الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس (1909- 1990) عن الأسباب التي تدفعه إلى الكتابة اختزلها في جانبين هما: الحاجة إلى تجاوز جدار العزلة وضرورة التواصل. في ما يتعلق بالعزلة فإنها لم تكن اختيارا أدبيا، إنما فرضت على الشاعر اليوناني منذ صغره، فقد شهدت حياته العائلية المبكرة تحولات هائلة أفضت إلى جنون والده، الذي فقد ثروته بسبب إدمانه على القمار، وإلى موت أخيه وأمه. وانتقاله القصري من إطار أسرة غنية إلى عتبات الفقر.
ويذكر أحد كتاب سيرة يانيس ريتسوس، أن الخدم ظلوا يقرعون كل صباح الأقداح الخزفية ليوهموا الجيران بأن عائلة ريتسوس لا تزال كعهدها ثرية ولم تفلس، لكن الوهم سرعان ما تبدد، عندما انتقل شاعرنا إلى أثينا ليكمل دراسته. لكنه تحت ضغط ظروف الفقر، اضطر إلى الانقطاع عن الدراسة والاشتغال في مهنة صغيرة، ثم تزايد إحباطه عندما أصيب بمرض السل. فعاد مجددا إلى قريته وقد تجرع غصص فقدان عائلته لبريقها الاجتماعي، وتوالي النكبات عليها. كل هذه الخطوب التي ألمت به، دفعت بالشاعر إلى الانغماس في الكتابة والإقامة بين غرفها التي لا تعترف بالحدود، ولا تأبه بالجدران المغلقة، فنظم ديوانه الأول «منزلنا القديم».

من الواضح أن الكتابة كما يقول ميلان كونديرا هي تصفية الحساب مع الماضي. فهذا الديوان ليس سوى تشييع لجنازة الذاكرة الطفولية لهذا المبدع اليوناني الاستثنائي، وكسر لطوق العزلة الذي عانى منه كثيرا، وانطلاقته الفنية ظهرت معالمها مع رجوع ريتسوس إلى أثينا بعد شفائه من المرض. ثمة حدث لافت ومحوري شهده ريتسوس مع العودة الثانية يتمثل في التحاقه بالحزب الشيوعي اليوناني والحركة التقدمية. هل كان ذلك اختيارا طوعيا، أم ضرورة أملت نفسها على الشاعر وفرضت عليه أن يحتمي بها؟ لا غرو في أن الكثيرين سيمضون إلى تبرير التزامه السياسي بسيرورة الوعي الاجتماعي آنذاك. إنها خلفيات الذات وممكناتها المعرفية. تتماثل خلفية ريتسوس العائلية البورجوازية مع خلفية شاعر يوناني اخر هو كوستاس كاريوتاكس (1896- 1928) الذي عثر عليه منتحرا تحت شجرة ليوكاليبتوس، بعدما أطلق النار على نفسه، وقد كتب في رسالة انتحاره (ها أنذا أدفع الثمن عن أمثالي في أولئك الذين يجدون مثلي أن الحياة بلا معنى).

كان ريتسوس شبيها بكاريوتاكس في الخجل والانطواء والعزلة. بيد أن الاختلاف بينهما يكمن في استرسال الأخير في غنائياته الحزينة، وعبثه الوجودي اللذين دفعا به إلى هاوية الانتحار. أما ريتسوس فقد عالج الفصام القائم بين الواقع الآني والإرث العائلي البورجوازي البائد، في انضمامه إلى صفوف الحركة التقدمية في اليونان، ما ساعده وحفزه على كسر حاجز العزلة الفردي والانسياق مع الموجة الثورية. ثمة تواصل مستمر بين القاع الذاتي والراسب الجماعي والانصهار بينهما، تجلى في الأعمال التي أصدرها شاعرنا اليوناني آنذاك وهي «مزرعة تراكتر» و»أهرامات» فيها تخلص من جنائزية الماضي ليقتحم غنائية الحاضر، ضمن نفس ملحمي يمزج بين الرثاء والحماسة. ظل شبح كاريوتاكس ماثلا في العالم الشعري عند ريتسوس، حيث مثّل منقذا له من ضلالة الانتحار وفقدان المعنى. كانت سنة 1936 نقطة مفصلية وعلامة فارقة في حياة ريتسوس، فقد جوبه الإضراب السلمي لعمال التبغ بقمع وحشي من الجنرال أيوانس ميتاكساس، وأطلقت الشرطة النار على المتظاهرين، ما أدى إلى قتل عدد كبير منهم، ثم نشرت الصحف صورة أم قرب جثة ابن لها. فأثرت الصورة في الشاعر المرهف، وكتب قصيدته الشهيرة «شاهدة القبر». التي لقيت رواجا كبيرا في اليونان.

يقول الشاعر:
يا ابني يا ابن رحمي يا قلب قلبي
يا طيري الصغير في باحة بيتي البسيط
يا زهرة صحرائي الوحيدة
كيف لعينيك أن تناما ولا تشاهدانني انتحب
لماذا لا تنصت إلى الكلمات المرة التي أصرخ بها؟
تحولت هذه القصيدة إلى أيقونة ثورية في اليونان. فبعد مدة وجيزة من تلك المذبحة الرهيبة استولى الجنرال ميتاكساس على السلطة، وأمر بإحراق الكتب أمام معبد زيوس في أثينا. وكان من الكتب المحروقة «شاهدة قبر» لريتسوس الثائر والناقم على الطغمة العسكرية، التي ظلت رغم القمع السياسي تعتمل في مخيلة اليونانيين، لاسيما بعدما لحنها لاحقا الموسيقار الكبير ميكسيس تيودوراكيس من منفاه في باريس. فالتداخل بين الذات والعالم حاضر بقوة في هذه القصيدة. فصورة الأم التي ترثي ابنها القتيل بنيران الجنود، لا تنأى عن والدته التي ماتت كمدا وحزنا على شقيقه. وصورة الأب المتسلط الذي بدد ثروته في القمار ليصاب بالجنون لا تختلف عن صورة الجنرال ميتاكساس، وهو يصاب بلوثة جنون السلطة، ليجهض ببنادق عساكره الإرث الديمقراطي لأثينا، ويستبدل به نظاما فاشيا على النموذج الإيطالي. بل إن القمع الذي تعرض له ريتسوس من خلال النفي والسجن، لا يختلف هو أيضا عن انتحار كاريوتاكس، كل ما في الأمر أنه انتحار بطيء داخل معتقلات الديكتاتور الفاشي ميتاكساس وهذا ما ساعده على فهم معنى الحياة، وعلى النفاذ إلى أعماقها الغائبة. الذات، المجتمع، الثورة، هذه هي الاعمدة الثلاثة للكون الشعري عند ريتسوس. كان الجامع بينها لا الأفكار الكبيرة ولا الأيديولوجيا، إنما التفاصيل اليومية الصغيرة التي غادرت إطارها السائد والمألوف، لتتخذ طابعا أسطوريا جنائزيا هو سر جمالية شعره ببساطته وهديره. فنصوصه تعبير عن عالم يتهاوى ويلفه السواد، لكنه مفعم بلحظات الحب النابضة والمؤمنة بالحياة يقول:
الكلمات شرايين يسري فيها الدم
عندما تحتشد الكلمات
يشتعل جلد الوردة أحمر
مثلما يشتعل جلد الرجل والمرأة
في لحظة حب.
تجربة هذا الشاعر اليوناني في زخمها الشعري الصادح، مزجت بين ما هو فردي وجماعي في كل أرجاء قصائده وسواحل نصوصه، حيث تصرخ في ثناياها أصداء المأساة الإغريقية القديمة. لقد رشح الشاعر ريتسوس لجائزة نوبل للآداب لمرات عديدة، إلا أنه لم يحصل عليها بسبب ميوله اليسارية، وقد اعترف شاعر تشيلي بابلو نيرودا عندما نالها في سنة 1971 قائلا (ريتسوس كان يستحقها أكثر مني).

ناصر الحرشي ناقد ادبي وسينمائي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق