اخبار عاجلة

الأب غوريو» للفرنسي هونوري دو بالزاك: غواية المال بين العقوق والقداسة.

في مرحلة التأسيس، إبان القرن التاسع عشر بوصفها جنسا أدبيا سرديا لا في مراحل تكونه ولا في نضجه ثم حداثته، وفي خضم هذه التحولات التي طالت مختلف مناحي الحياة، في فرنسا الثورة ثم عودة الملكية من جديد، وعلى ضوء هذه الانشقاقات العميقة كان للاتجاه الواقعي الفرنسي في الرواية اليد الطولى ملاحقة الواقع المتغير، كما عبرت عن رفض هذا الواقع وتأبيده، فقد ولّت وجهها شطر المجتمع في حيويته وديناميته، بل إن عناصر الحكاية من حدث وشخصيات وإطار زماني ومكاني في مادة الحكي في رواية الأب غوريو توشي بحضور المجتمع وعوالمه، منخرطة في واقع الحياة والناس، كشفا ونقدا وتوجيها، حيث بدا ذلك واضحا من خلال النزعة الانتقادية التي طبعتها والتي طغت في أحيان كثيرة على أبعادها الفنية وملامحها الجمالية. فقد كشفت عورة المجتمع الباريسي بكتله الاجتماعية المتقابلة المحكومة بسلطة المال ولوثته، فضلا عن كونه القوة المحركة لهذا الكون السردي، حيث اشتغال الخطاب يكمن في طرح عدد من الكيانات (شخصيات.. أشياء.. أماكن) ومنحها تدريجيا سلسلة من الخصائص، وهو المسؤول عن سلسلة النعوت والأفعال المؤسسة والموجهة لسلوك الشخصيات والأدوار التي أسندت لها أثناء التجلي النصي، وهذا ما يسمح لنا بتصور ترسيمة عامة عن النص ومضامينه الدلالية، عبر عمليتها التبادلية والتواصلية في سياقها المقامي إرسالا وتلقيا، وكذا الذوات والأصوات الساردة المنتشرة في ربوعه، التي أطلق عليها الجيرداس غريماس لقب العوامل، وتشتغل هذه العوامل كغطاء لمجموعة من المحمولات الثقافية (وظائف، مواصفات، رؤى) فالخطاب السردي كعلامة ثقافية، إنما يشكل قراءة استفزازية تسبح ضد التيار وتزحزح الثابت المستقر وتحرك البرك الأسنة في اللغة والعلامات والأشكال الثقافية والأيديولوجيا، لأنه يعمل على تفجير أسئلة تلامس مناطق مسكوتا عنها في الواقع.

صرخة في وجه الظلم

إن رواية الأب غوريو بتمفصلاتها تدين المجتمع الباريسي المتيم بالمال، النزعة الربحية، وعلاقة العد والنقد، محولا شخصيات الرواية إلى عبيد لكيس النقود، به يأتمرون، وإليه يحتكمون، إذ تغدو لغة المال وفلسفته هي الغاية الأقصى والأسمى في هذه العلاقات التي تربطهم، يتلاعب كبهلوان بأخلاقياتهم ومصائرهم، حيث اللجوء والنزوح والركض خلفه، خوفا من فقدانه أو ضياعه، وهو الصورة الأبهى للخراب الروحي والشتات الأسري وتفكك العلاقات بين الآباء والأبناء، ثم بين الأزواج مخيما وجاثما بصولجانه الأبدي الغاشم على صدورهم، وهو أصل اللامساواة والآلام التي تحاصر شخصيات رواية الأب غوريو. لم يمنحهم المال خلاصا أو حتى محاولة إبحار في بحر الطمأنينة والسلام، دافعا بهم نحو بوابة الهلاك، ورويدا رويدا تنكشف الحالة التي يعالجها بالزاك بلغته الحكائية، فهي تصرخ في وجه ظلم المال غوايته وعقوقه بغضب عارم، وهي صرخات الأب غوريو في وجه من تخلى عنه في لحظات الأزمة والإفلاس وزوال النعيم، وتركه وحيدا يصارع المرض والموت منبوذا في غرفة في نزل رخيص تملكه أرملة تدعى السيدة فوكير، وهي امرأة قاسية القلب شديدة الجشع والتعطش لكسب المال. ندرس في هذا المستوى علاقة الأب غوريو بابنتيه، الكونتيسة أنا ستازي والبارونة ديلفينيت، اللتين أحبهما حب عبادة وأفرط في دلالهما، مبددا ثروته بالكامل من أجل إسعادهما وتربيتهما تربية نبيلة، فقد اغتنى الأب غوريو زمن الثورة عن طريق بيع العجائن الإيطالية والدقيق، محكما سيطرته على أسواقه ومستغلا الظروف العصبية التي كانت تمر فيها فرنسا بسبب الأحداث السياسية والاقتصادية التي عصفت بها، في سبيل أن يزوج ابنتيه من رجال ينتمون إلى الطبقة الارستقراطية، وأنفق كل ثروته على ابنتيه الجحودتين الإتكاليتين والناكرتين لجميل أبيهما، خصوصا بعد زواج البكر أنا ستازي من الكونت دوريستو، وديلفينيت من البارون الألماني الأصل دو نيسانجين واستقرارهما في حي سان جرمان الراقي.
الرواية من خلال الإخراج السردي ومن خلال العوالم التي دشنتها لغتها التخيلية، تنير المتاهات للقارئ فتضعه على عتبة احتمالات ممكنة للنص، فهي تتأسس على سؤال مركزي مضمر وضمني، وصارخ، من أنا بدون ثروة؟ وقد صيغ هذا السؤال في عدة جمل سردية على لسان السراد، ولاسيما السارد المركزي الأب غوريو هذا

■ تشكل رواية الأب غوريو للروائي هونوري دوبالزاك نموذجا معبرا عن الواقع الفرنسي زمن الإصلاحات والتحولات الاجتماعية والسياسية المتواترة (1834) وساهمت في تبلور تصور مشترك للرواية الواقعية إبداعا وتلقيا، وهذا ما مهد الطريق أمام تكون ذاكرة روائية حقيقية، دشنت لجملة من التقاليد التي كان لها أثر كبير في مسيرة الرواية الفرنسية.
في مرحلة التأسيس، إبان القرن التاسع عشر بوصفها جنسا أدبيا سرديا لا في مراحل تكونه ولا في نضجه ثم حداثته، وفي خضم هذه التحولات التي طالت مختلف مناحي الحياة، في فرنسا الثورة ثم عودة الملكية من جديد، وعلى ضوء هذه الانشقاقات العميقة كان للاتجاه الواقعي الفرنسي في الرواية اليد الطولى ملاحقة الواقع المتغير، كما عبرت عن رفض هذا الواقع وتأبيده، فقد ولّت وجهها شطر المجتمع في حيويته وديناميته، بل إن عناصر الحكاية من حدث وشخصيات وإطار زماني ومكاني في مادة الحكي في رواية الأب غوريو توشي بحضور المجتمع وعوالمه، منخرطة في واقع الحياة والناس، كشفا ونقدا وتوجيها، حيث بدا ذلك واضحا من خلال النزعة الانتقادية التي طبعتها والتي طغت في أحيان كثيرة على أبعادها الفنية وملامحها الجمالية. فقد كشفت عورة المجتمع الباريسي بكتله الاجتماعية المتقابلة المحكومة بسلطة المال ولوثته، فضلا عن كونه القوة المحركة لهذا الكون السردي، حيث اشتغال الخطاب يكمن في طرح عدد من الكيانات (شخصيات.. أشياء.. أماكن) ومنحها تدريجيا سلسلة من الخصائص، وهو المسؤول عن سلسلة النعوت والأفعال المؤسسة والموجهة لسلوك الشخصيات والأدوار التي أسندت لها أثناء التجلي النصي، وهذا ما يسمح لنا بتصور ترسيمة عامة عن النص ومضامينه الدلالية، عبر عمليتها التبادلية والتواصلية في سياقها المقامي إرسالا وتلقيا، وكذا الذوات والأصوات الساردة المنتشرة في ربوعه، التي أطلق عليها الجيرداس غريماس لقب العوامل، وتشتغل هذه العوامل كغطاء لمجموعة من المحمولات الثقافية (وظائف، مواصفات، رؤى) فالخطاب السردي كعلامة ثقافية، إنما يشكل قراءة استفزازية تسبح ضد التيار وتزحزح الثابت المستقر وتحرك البرك الأسنة في اللغة والعلامات والأشكال الثقافية والأيديولوجيا، لأنه يعمل على تفجير أسئلة تلامس مناطق مسكوتا عنها في الواقع.

صرخة في وجه الظلم

إن رواية الأب غوريو بتمفصلاتها تدين المجتمع الباريسي المتيم بالمال، النزعة الربحية، وعلاقة العد والنقد، محولا شخصيات الرواية إلى عبيد لكيس النقود، به يأتمرون، وإليه يحتكمون، إذ تغدو لغة المال وفلسفته هي الغاية الأقصى والأسمى في هذه العلاقات التي تربطهم، يتلاعب كبهلوان بأخلاقياتهم ومصائرهم، حيث اللجوء والنزوح والركض خلفه، خوفا من فقدانه أو ضياعه، وهو الصورة الأبهى للخراب الروحي والشتات الأسري وتفكك العلاقات بين الآباء والأبناء، ثم بين الأزواج مخيما وجاثما بصولجانه الأبدي الغاشم على صدورهم، وهو أصل اللامساواة والآلام التي تحاصر شخصيات رواية الأب غوريو. لم يمنحهم المال خلاصا أو حتى محاولة إبحار في بحر الطمأنينة والسلام، دافعا بهم نحو بوابة الهلاك، ورويدا رويدا تنكشف الحالة التي يعالجها بالزاك بلغته الحكائية، فهي تصرخ في وجه ظلم المال غوايته وعقوقه بغضب عارم، وهي صرخات الأب غوريو في وجه من تخلى عنه في لحظات الأزمة والإفلاس وزوال النعيم، وتركه وحيدا يصارع المرض والموت منبوذا في غرفة في نزل رخيص تملكه أرملة تدعى السيدة فوكير، وهي امرأة قاسية القلب شديدة الجشع والتعطش لكسب المال. ندرس في هذا المستوى علاقة الأب غوريو بابنتيه، الكونتيسة أنا ستازي والبارونة ديلفينيت، اللتين أحبهما حب عبادة وأفرط في دلالهما، مبددا ثروته بالكامل من أجل إسعادهما وتربيتهما تربية نبيلة، فقد اغتنى الأب غوريو زمن الثورة عن طريق بيع العجائن الإيطالية والدقيق، محكما سيطرته على أسواقه ومستغلا الظروف العصبية التي كانت تمر فيها فرنسا بسبب الأحداث السياسية والاقتصادية التي عصفت بها، في سبيل أن يزوج ابنتيه من رجال ينتمون إلى الطبقة الارستقراطية، وأنفق كل ثروته على ابنتيه الجحودتين الإتكاليتين والناكرتين لجميل أبيهما، خصوصا بعد زواج البكر أنا ستازي من الكونت دوريستو، وديلفينيت من البارون الألماني الأصل دو نيسانجين واستقرارهما في حي سان جرمان الراقي.
الرواية من خلال الإخراج السردي ومن خلال العوالم التي دشنتها لغتها التخيلية، تنير المتاهات للقارئ فتضعه على عتبة احتمالات ممكنة للنص، فهي تتأسس على سؤال مركزي مضمر وضمني، وصارخ، من أنا بدون ثروة؟ وقد صيغ هذا السؤال في عدة جمل سردية على لسان السراد، ولاسيما السارد المركزي الأب غوريو هذا العجوز الغني في ما مضى الفقير والمملق في الزمن الحاضر، زمن الأخطاء بسبب سوء تدبيره لماله وإتلافه عبر إغداقه على ابنتيه المدللتين العاقتين ثم على صهريه الغارقين في الديون.

البوح والاعتراف

فقد تجلى عقوق أنا ستازي وديلفينيت في عدم اهتمامهما به وهو مريض طريح الفراش يحتضر، أو حتى تمكينه من بعض النقود لشراء الدواء والكفن والتكفل بنفقات دفنه. ففي شبكات العلاقات الاجتماعية في باريس، الفضاء المكاني لهذه الرواية، حيث شيدت عالمها السردي على أنقاض المدنس، وهي العلاقة القائمة بين أفرادها المبنية على حب المال، الجشع، الربا، الخيانة والعلاقات الزوجية المعيبة، واقتران ذلك بوضعية قلق وجودي يعتري أبطالها، ولا سيما النزلاء المقيمين في النزل الرخيص الذي تديره السيدة فوكير المهووسة بكنز المال، كاشفا بذلك صوت الكاتب عن حالة الاستلاب التي أصابت الشخصيات من أعلى السلم الاجتماعي إلى أسفله. وهو إعلان صريح عن حالات عبودية وقنانة مقنعة، قائمة بين الأزواج من جهة والعشاق من جهة أخرى «السيدة أنا ستازي وعلاقتها المختلة بزوجها دوريستو وخيانتها له مع عشيقها ماكسيم الغارق في الديون، السيدة ديلفينيت وعلاقتها المعيبة بزوجها البنكي دونيسانجين، وفرض هذا الأخير وصايته على ثروتها، علاقة الفيكونتيسة دوبوزيون القائمة على المصالح بالكونت البرتغالي الفاحش الثراء أجيدا بينتو أحد أكبر أسياد المال والعقار والمصاهر لعائلة روشفيد النبيلة والحديثة العهد بالمال والثراء». في هذه المساحة النصية البالزاكية المعبرة عن موت الإنسان ومراسيم دفنه في مزبلة المال، بكل ما يحمل من دلالات سلبية وقدحية وما فتحه من جراحات وأوجاع ومحن لهذه الشخصيات، ما خلف هشاشة اجتماعية ثم الوقوع في الخطيئة والرذيلة أو الفضيحة الأخلاقية، إنها جلسات البوح والاعتراف لمجتمع تحتضر منظومته القيمية، وهي وضعيات ذوات هذه الرواية، أو هو ممر نحو التخلص من كل الأعباء وعذابات الضمير والاختلالات النفسية لهؤلاء. فقد عانى أبطال بالزاك في رواية الأب غوريو من حالات للعنف المادي والنفسي والرمزي، كغياب حس المسؤولية من طرف الآباء تجاه الأبناء، أو العكس (هجران الأب تانيير الرجل البنكي الغني لابنته فيكتوريين ومحاولة حرمانها من الإرث ووضعها في النزل الرخيص للسيدة فوكير ثم عواطفه الباردة تجاهها).
إن المتتبع لما يكتبه بالزاك يحس أنه أمام كتابة واقعية شديدة الارتباط بالواقع تمتح مفاهيمها وأدواتها المعرفية من مرجعيات مختلفة، وهذا ما راكم تجربته الإبداعية وتمرسه الثقافي، حيث تغلب مدرسة الواقع على كل أعماله.
هناك أهمية كبيرة للأحداث من خلال ارتباطها داخل تسلسل تعاقبي وترابط منطقي يعضد بنية النص الحكائية، مع التتابع الخطي للأحداث على خط الزمن، ضمن زمن مؤطر هو الحاضر، حيث يجسده أبطال هم صناعه وموضوعه، بدءا بالسيدة فوكير المشار إليها سابقا والمالكة للنزل الرخيص في شارع نوف سانت جينيفيف، الواقع ما بين الحي اللاتيني وحي سان مارسو والمولودة في كونفلون، وهي سيدة متقدمة في السن تقوم بأعمال الإشراف والتسيير لهذا النزل لمدة أربعين سنة، مع تقديم الخدمات والطعام لنزلائه، مقابل الدفع نقدا (المبيت، الغداء، العشاء) كل حسب دخله. هؤلاء النزلاء المكونون من طبقات اجتماعية دنيا أو ثرية سابقا فقدت الثروة واللمعان الاجتماعي، خاصة الآنسة ميشونو، السيد بواري، الأب غوريو الشخصية اللافتة في الرواية، طالب الحقوق أوجين دوراستنياك وهو أحد الأبطال الرئيسيين، طالب الطب بيانشو، الفتوة والبلطجي الهارب من سجن تولون، السيد فوتران واسمه الحقيقي جان كولان، الآنسة فيكتوريين، السيدة كوتيير، الطاهية سيلفي البدينة ثم الخادم شريستوف.
هؤلاء يعيشون أزمة حقيقية مع انتشار ثقافة المال والفكر النفعي والسلعنة لكل القيم الإنسانية، وهذا ما شكل داخل هدا الفضاء النصي بيئة للتراجع والانحطاط الأخلاقي وشيوع ظواهر القبح والعقوق بكل أشكاله، ثم استفحال صنمية وخطاب المال، مع مبدأ كونيته.
أوجين دوغاستنياك الطالب المثالي والطموح دارس القانون هو جار الأب غوريو في هذا النزل وصديقه الحميم رغم فارق السن، الصوت المهيمن والعضد المساعد لهذا العجوز في سرائه وضرائه، فرغم هذا الفارق في الأجيال فقد ربطت صداقة متينة بينهما، حيث لازمه هذا الطالب طوال فترة إفلاسه ومرضه، ثم هو المتكفل بنفقات ومصاريف دفنه مع صديقه طالب الطب بيانشو وأوجين دوغاستينياك هو العشيق لابنة العجوز البارونة الجميلة ديلفينيت التي تعرف عليها في قاعة المسرح الإيطالي بواسطة قريبته النافدة سيدة الصالونات والحفلات الصاخبة في الأوساط الباريسية الراقية الفيكونتيسة دوبوزيون، حيث مثل هذا البطل القادم من ضواحي باريس من أجل الدراسة الجامعية، والذي ينتمي إلى عائلة نبيلة مفلسة، حجر الزاوية في عملية الإنتاج السردي.
شاب يتميز بروح طاهرة وطوية نقية وقلب عاشق رغم طموحاته في تسلق السلم الاجتماعي وتغيير شرطه المادي، ظل طوال الرواية ينبض في داخله الإنسان وحبه الكبير للبارونة ديلفينيت وتعلقه بها، وكونه خليلها فتح له الطريق ليلج أعالي المجتمعات الباريسية، رغم قلة ذات يده واعتماده في مدخوله في الأساس على مساعدة أسرته له (الأم، الأخت، العمة) ثم تدبير نفقاته بلعب القمار أحيانا، لكن افتقاره لسلاح المال حال دون فرض نفسه في هذه الأوساط، رغم هيام البارونة الصغيرة به التعيسة في حياتها الزوجية، فبدا مهمشا غير قادر على الفعل، وليس ذلك بسبب عيب في شخصيته وإنما لقسوة العالم، هذا الأخير الذي تسوده الطبقية مما شيأها ولينها وأفقدها وظائفها وأدوارها المفترضة في مجتمع انقلبت فيه المعايير والأوضاع، ليعبر السرد بذلك عن وضعية هذا البطل المثقف والباحث عن وطن اسمه العدالة، في عالم إشكالي يسوده الظلم والابتذال ليجرد من كل معاني البطولة، ويسقط نظرا لمفارقة وعيه الطوباوي لمعطيات الواقع ومعضلاته، إذ خرج أوجين دوغاستينياك من كهفه محاولا أن يكتشف نورا في الخارج، لكنه خلافا لذلك اكتشف ظلمة دامسة تختلف عن القيم والمثل التي يؤمن بها، وحاول أن يجابه الواقع المبتذل، الذي يقيم العقبات في وجه أحلامه وأفكاره المتعالية، ما أرغمه على الخضوع لموضوعات الأسرة المجتمع، الدولة، القوانين، ثم بدأ صراعه مع العالم صراعا دونكيشوتيا من أجل تغييره، أو على الأقل للحصول على زاوية من سماء فوق الأرض برفقة حبيبته ديلفينيت التي تشاطره بعضا من مثله، فغابت هويته وقبع وحيدا يغرد خارج السرب بسبب عالم موبوء غير إنساني تسكنه الأعطاب.
إن الحديث عن البناء الثقافي في هذا النص السردي معناه ارتباط الشخصيات بالعالم الخارجي الواقعي، ارتباطا سيكولوجيا وسوسيولوجيا، فالنص بالأساس هو وسيط ثقافي بين العالم الموضوعي وعالم الممكنات، باعتبار هذه الرواية الواقعية لبالزاك هي ذات نزعة واقعية بكل تحويلاتها وتلويناتها من التفضييء إلى التزمين فقد تحدثت عن الحياة الباريسية بترفها وشظفها في زمن التحولات والإصلاحات، كما انتقدت انحراف المؤسسات الاجتماعية، وعلى رأسها المؤسسة الأسرية والمؤسسة الزوجية باعتبارهما نواة المجتمع، حيث حكمتها لغة الأرقام، الكمبيالات والمضاربات، ما أفقدها عذريتها ودورها في تفكك العلاقات الأسرية وعقوق الأبناء تجاه الآباء أو العكس. يرتبط أوجين دوغاستينياك بعلاقة وطيدة بالأب غوريو قدر ارتباطه بابنته الحسناء البارونة الصغيرة، فهو فقير في وضعه الحالي متيم بولوج أعالي قمم المجتمع الباريسي وبكونتيساته الفاتنات، لكنه غني بقيمه الحميدة التي يؤمن بها متأرجح بين الوفاء لمثله وحلمه لتغيير شرطه الاجتماعي، عبر الارتباط بالمجتمع النسائي الباريسي المخملي، وهو موضوع لإستقطابات متنوعة، فكل مجموعة اجتماعية حاولت ضمه إليها، والكاتب يقدم لنا هذا البطل في لحظة انخراطه في حركة المجتمع الكبرى من أجل بلورة وعي يعيد له ذاته.. لكن أحيانا يبدو شخصية مهزوزة وكاريكاتيرية محكوما عليها بالفشل مند اللحظات الأولى لظهوره.

البناء الثقافي

وفي إمكاننا التأكيد على استمرار السلوك الإنساني فيه، المستند إلى وعي حقيقي وأخلاق فاضلة تميزه عن باقي شخوص الراوية، وكذا في صراعه مع عالم ميكيافيلي بزمره المجتمعية المتقابلة، وبناء عليه فان نمط تقديم هده الشخصية بمواصفاتها الإيجابية والسلبية، أسهمت في تحقيق مقروئية البنية السردية.
فقد ظل هذا البطل الضمير الحي الوحيد والمتبقي من عالم تم إقصاؤه، فقد سيطر هاجس المال بشكل مريع في مستويات عدة في هذه الرواية، الشاهدة على عقد قران أوديبي ما بين الإنسان وما بداخل جيبه، فقد قدم لنا الكاتب شخصية الأب غوريو كإنسان مهووس بالمال والربح، يفكر بمنطقه ويقيس الأمور به ويرى برؤيته وتحت وطأته وفي فنائه وغيابه، عاش تفاصيل مأساته، لقد راهن بائع العجائن الإيطالية على الحصان الخاسر، فبعد أن بارت تجارته أدرك أنه كان مجرد رقم في علاقته بالآخرين ولم يعد يساوي فلسا بعد زوال ثروته وتنكر أقربائه له واستقراره في الطابق الأخير من نزل السيدة فوكير، لذلك قرر الرحيل. وتأسيسا على ما ذكر فقد حاكم وندد عملاق الواقعية الفرنسية وصاحب الكوميديا الإنسانية من خلال هذه الشرفة النصية، نذالة المال وفعله التدميري، بل وتأثيره الشيطاني على القلوب والعقول والأروح، لذا فان هذه الرواية الواقعية بامتياز كانت صاحبة قضية وحاملة رسالة.

بقلم الناقد الادبي والسينمائي ناصر الحرشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق